ملحمة گلگامش أو المفرد بصيغة المثنى

ملحمة گلگامش أو المفرد بصيغة المثنى
صورة: هسبريس
الثلاثاء 17 ماي 2022 - 00:02

تعتبر ملحمة گلگامش من أقدم الكتابات التي تم اكتشافها، إن لم تكن أقدم نص مكتوب في تاريخ البشرية. يرجع تاريخ كتابتها إلى 2100 سنة قبل الميلاد وقد دونت على ألواح من طين، عثر عليها بالعراق في بداية القرن التاسع عشر.

طبيعة الأحداث التي تسردها الملحمة تحيل إلى أنها كتبت بين العصرين الأكادي السومري، بينما الأكيد أن مسرح الأحداث ليس إلا المجال الجغرافي الممتد بين النهرين، دجلة والفرات.

باقتضاب شديد، تروي الملحمة التي عُنونت باسم أحد أبطالها، گلگامش، قصة هذا الملك المستبد الذي يهابه الكل لجبروته وطغيانه. في المقابل، نجد أنكيدو، الإنسان الذي ترعرع في كنف الطبيعة وشب بين أحضان الوحيش. تشاء الأقدار أن يلتقي الاثنان في صراع دام الوقت الكافي ليدرك كلاهما أن لا غالب ولا مغلوب بينهما، وأنهما وإن كانا مختلفين في الأصل والمنشأ، مثيلان في الصمود والقوة.

يقرر الاثنان الدخول في هدنة تقودهما إلى الصداقة، ثم إلى التآخي، ليقررا معا خوض الحروب اللازمة لاستئصال جذور الشر أينما وجدت. يواجه گلگامش وأنكيدو وحش الغابة، هومبابا حارس شجر الأرز، ويتغلبان عليه، كما تغلبا على جميع الصعاب التي اعترت طريقهما نحوه. يجتاز الاثنان بعد ذلك امتحان الملكة عشتار التي وهبت نفسها لأحدهما كي تفرق بينهما. واجه گلگامش وأنكيدو فتنة عشتار بحزم وصرامة، ليسحقا العجل الذي أرسلته انتقاما لها.

يموت أنكيدو بعد أن كادت له عشتار ويصير جسدا هامدا كصنم من طين. صحيح أن الحزن اجتاح قلب گلگامش، لكن إحساسه بالخوف كان أشد وأمر. الخوف من مآل أنكيدو، الخوف من الموت ومن جماد الروح في الطين.

هذا الخوف الرديف للرغبة في الخلود يدفع گلگامش إلى الرحيل بحثا عن الحقيقة. رحلة بحث يركب فيها سفينة تشق بحر الموت، بصحبة شخصية بالغة الحكمة، تقوده إلى شخصية أخرى لا تقل حكمة ويزيدها أنها عاشت تجربة الطوفان ونجت منه بأمر إلهي.

من خلال هاته اللقاءات ومن خلال النقاشات الطويلة التي رافقتها، يستشف گلگامش استحالة الخلود، يدرك أن الموت أول الجواب عن سؤال الأبدية ويعي أن السؤال واجب عن الحياة فقط.

في النهاية، يُطلب من گلگامش أن يهنأ بالحياة، ويُهدى زهرة، قيل إنها زهرة الخلود، لكن سرعان ما يفقدها بعدما ابتلعتها حية تسعى. باختصار، رحل گلگامش عن أرضه متوجسا خائفا، ليرجع من رحلة بحثه شريدا خائبا.

القيمة التاريخية والحمولة الرمزية لهذه الملحمة تغني لا ريب عن السؤال المؤرق حول مدى واقعيتها، أو على الأقل تقلل من أهميته العلمية بالنسبة للأركيولوجيين، لتفتح باب الانشغال بقراءة فلسفية أنطولوجية لكلمات النص خارج سياقها السردي، ولتمكن من إعادة كتابة معانيها دون التقيد بمسمياتها.

فگلگامش، الرمز وليس الشخص، ما زال يقبع ملكا في ذاتية كل واحد منا. ولكل منا أنكيدوه، أنكيدو الرفيق القرين، الأنا الآخر، أو الآخر في الأنا، أنكيدو المخاطب في الحوار مع الذات. ولربما نجيء للوجود وقد تركناه وراءنا، هناك في الجنان، في البلاد الأولى، يلهو ويلعب. ولهذا نحيا خوفا وبحثا. خائفين من الغياب الموحش، من غياب أنكيدو، من زلة الطين ومن جماد الروح، باحثين عن الحضور الذي يملأ جنبات الذات بالحياة وبالإيقاع.

ملحمة گلگامش تذكرنا أن أنكيدو غائب عن المدينة وحاضر في الذات. أنكيدو الخصم الذي ذكر گلگامش بحيزه المتناهي في المكان والزمان، الذي غلب الأنا العاتية علوا في الأرض وفسادا. وكل منا جالس على شرفة الذات، يترقب أنكيدو ويتأسف أنه لا يرى إلا وجهه في المرآة. كل منا يرقب أنكيدو المندس بين ملامح الوجه ويأسف أنه صار صنما من طين، جسدا له خوار.

كما تذكرنا هاته الملحمة بأننا نجيء للوجود فرادى، حتما أموات، وعلى گلگامش أن يُحيي أنكيدو، أن يكونه متى لزم الأمر، أن يحمل اسمه وأن لا يذكر موته، أن يصبر ويكابد. مصير گلگامش الحتمي هو أن يحيا قبل أن يموت وأن يعيش اثنان في واحد. فأنكيدو لم يمت، بل عاش في گلگامش ولربما كانت رحلة هذا الأخير بحثا عن حياة الواحد بعد موت الاثنين فيه. ولربما مات الاثنان بعد موت الواحد، وكانت الرحلة بحثا طبيعيا ومشروعا عن الدار الأولى، عن بيتهما جنب الجنان.

وجبت الإشارة إلى أن گلگامش، حين عودته من رحلته الكبرى، دون سيرته وسرد من خلالها قصته الملحمية حول البحث عن الأبدية، كل ذلك على ألواح من طين. گلگامش أحيا أنكيدو الذي صار طينا وحاوره، كلمه بلغتهما التي اصطنعا لأنفسهما، لغة الكتابة، مهد الخلود.

گلگامش دون أنكيدو ودون نفسه، رفض الموت وعاش خالدا في الوجدان الإنساني، خالدا خارج التراب، يحيى ملحميا، في اللغة والكلام.

‫تعليقات الزوار

1
  • مخالب منكسرة .
    الثلاثاء 17 ماي 2022 - 16:19

    الإنسان مزيج من الخير والشر ، من حسن الظن وسوء الظن . الإنسان نتاج تجربته في حياة الأدغال التي تختفي خلف مظاهر المدنية الخادعة . هروب كلكامش من عشتار لم يكن خوفا من أن يموت غيلة كما مات أنكيدو هروبه كان في الحقيقة انسحابا لعمق الذات ، كان رحلة في عبثية الحياة نفسها وهل يمكن أن يطويه النسيان كما طوى أنكيدو البطل المغوار . أسئلة هل تضخم الأنا خدعة ؟! هل أنا مجرد بكتيريا عابرة قد تموت غيلة أو تموت قضاءا وقدرا ؟. معضلة الشر ومعضلة الخير ، ثنائية التوهان وأفيون عال التركيز ، صدمات اليومي / بكسر الصاد/ صراعات المعاش / بضم الميم / تقلب الموازين من الخير إلى الشر ، ومن النقيض للنقيض ، والموت دون أن تدرك السؤال الخدعة ! تجعل منك مجرد لبنة أخرى ترص على سور الصين … أنت لست أكثر من طين .

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 1

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 2

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 10

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج