أي نموذج تنموي مغربي؟

أي نموذج تنموي مغربي؟
الأربعاء 7 غشت 2019 - 14:10

مرةً أخرى، يُطرح في بلادنا وعلى كل المغاربة سؤالُ “أي نموذج تنموي مغربي لتشييدِ المغرب المتقدم؟”

هذا السؤال الذي صِيغَ في الخطاب الملكي الأخير بالمضامين أعلاه، مع إجراءِ إحداثِ لجنةٍ للمسألة المطروحة، ليس جديداً ولا ابتكاراً أبداً…

لقد أُثيرَ بصفةٍ جديةٍ في حينه، بمجرد أولِ احتكاكٍ لبلداننا مع الاستعمار.. وقد صِيغَ من لدن نخبةِ أواخر القرن 19 وأوائل القرن 20 في معادلةِ “لماذا تأخرنا بينما تقدم غيرنا؟”

إنه ذات السؤال الذي سيعود بقوةٍ ووضوحٍ إلى واجهةِ التطلعاتِ والأحلامِ الكبرى في السنوات الأولى للاستقلال، وذلك في مختلف الأقطار العربية، ومن بينها بلادنا، منذ منتصفِ القرن الماضي.

في هاتين المحاولتين واللحظتين التاريخيتين معاً، تصدتِ النخبة المثقفة الحرة والأصيلة في بلادنا وفي مختلفِ هذه الأقطار لهذا السؤال الحضاري بمشروعٍ فكري وحدوي تَواق، بتطلعاتٍ نهضويةٍ حية وبرغبةٍ قويةٍ واضحةٍ في التوجه إلى تحقيقِ التحريرِ والتحررِ والحريةِ العميقة، عبر معالجة أسباب الداء لا أعراضه فقط… أعني؛ تحرير البلاد من الوجودِ والنفوذِ الأجنبين.. التحرر من الثالوث القاتل مجسداً في الاستبداد والتخلفِ والتبعية.. والتطلع إلى بناءِ قلاعِ أوطانِ الحريةِ العميقة بتعميقِ قيم ومؤسسات العدل والعدالة في توزيع الثروات والسلط، وذلك بالموازاة مع العمل على تشييدِ المجتمع المنتج، المتضامن والمزدهر.

اليوم، وقد آلَتِ الأمورُ والأحوال إلى ما آلتْ إليه منذ المحاولتين معاً في واقعنا الملموس، يُعاودُ السؤال ذاته طرحَ نفسه في ظل معطياتٍ وعوامل خارجية وداخلية لا تختلف كثيراً عن الماضي، ذلك أن الثالوث القاتل هو نفسه “الاستبداد والتخلف والتبعية”، لا يزال حياً يُرزق رغم أن مضامين العناصر الثلاثة لهذا الثالوث القاتل قد تطورتْ وتعمقتْ في بدايةِ القرن 21، وخصوصاً في البلدان التي اختارتْ فيها أنظمة ما بعد الاستقلالات الشكلية الانضواءَ تحت لواءِ المشروع الغربي أو مشروع المستعمر، وذلك بعبارةٍ أوضح.

إن ما يهني في العودة إلى التاريخ أو في الإشارةِ إلى تجاربِ من ماضينا الحديثِ جداً، ليس تقليب المواجع أبداً أو مجرد الحنين إلى طقوسِ الحماس الجماعي العارم (وما أحوجنا إليه اليوم وغداً؟) في الانعتاقِ واستعادةِ التحكمِ في زمامِ الأمور وفي استرجاعِ الإشعاعِ الحضاري لأمتنا… إن ما يهمني من دروسِ التاريخِ وعِبَرِ تجارب الماضي الطرية جداً- بعد الخطاب الملكي الواضحِ الأخير، وبمناسبة مرور حوالي 30 سنة على إقامة هياكل اتحاد المغرب العربي- هو ربط السابقِ باللاحق في محاولةٍ لتجديدِ الأمل وزراعةِ الحماسِ الوَلاد وإحياءِ التطلعِ البناء إلى الانبعاثِ والانعتاقِ والازدهار.

الآن، هل أجازفُ وأقول؛ إن الفرصة في منازلةِ ثالوث الاستبداد والتخلف والتبعية، الذي قادنا إلى الانحطاطِ و”الاستعمار المباشر” ثم إلى “الاستعمار غير المباشر” و”الإخضاع المعولم”، لا تختلفُ عن تلك الفرصة التاريخية التي انفتحتْ أمامنا في منتصفِ القرن الماضي.. فإذا كان الحماسُ الجماعي الذي كان، هو ما ينقصنا على صعيدِ معطياتِ العامل الداخلي، فإن ما يُميزُ معطيات العامل الخارجي اليوم تتشابه من حيث الضعفِ البين للقوى الاستعمارية مجسداً في أفول أوربا، في تخبطِ أمريكا، في أزمةِ الرأسمالية على الصعيد الاقتصادي بتمظهراتها البئيسة أخلاقياً وسياسياً واجتماعيا وثقافياً، وفي بزوغِ قوى إقليمية وعالمية صاعدة، وذلك بالتزامن مع انتعاش اقتصاديات التحرر والنماذج التنموية المُقاومة…

هذه الظرفية الملائمة اليوم، متمثلةً على صعيدِ العوامل الخارجية في التخبط والعجز الذي يميز قوى الاستعمار والهيمنة الخارجية، تقتضي من جملة ما تقتضي؛

أولاً؛ إرادة فكرية سياسية صادقة وثابتة، صلبة وواضحة، تمتد من القمة إلى السفح، في الانعتاق وتحقيق الازدهار واستعادة الإشعاع… إنه الاختيار الذي يستدعي في حالتنا المغربية، بعد التراكمات الإيجابية المحققة على صعيد المصالحة والحريات، الحسم في مسألة التداخل والخلط بين الحكم والسلطة وبين المال والأعمال.

ثانياً؛ نخبة فكرية، سياسية وتدبيرية، ممن يفكرون من المغرب، للمغرب ومن أجل المغرب وكل المغاربة… إنه الأمر الذي يستوجب البحث عن الكفاءات والخبرات الوطنية الموثوقة خارج نطاق “ضعاف النفوس” والمُرقعين (جهابذة سياسة الترقيع!) و”النصابين في سوق السياسة و الأبحاث والدراسات” وما يسمى بالأطر والخبراء الأجانب و”المُترجَمين” (الفتحة فوق الجيم؟)، وعلى رأسهم ما صار معروفاً بيننا ولدينا بِ “وليدات فرنسا” أو خدام مؤسسات الدين الدولية، مثلاً.

ثالثاً؛ إصلاحات استراتيجية عميقة تتوجه إلى تشييدِ وإعادة بناء منظومة البحث والابتكار العلمي ببلادنا، بالانتقال من تلقين “معرفة الاستهلاك” إلى تعليم “معرفة الإنتاج”… وذلك، بالموازاة مع إطلاقِ التصحيحات السياسية والثقافية اللازمة الكفيلة بالفصل بين المال والسياسة، بين السلطة والأعمال، وبين الدين والانتخاب، عبر إجراءاتٍ وتدابير ملموسة ونظام انتخابي ناجع (البرلمان في دورتين مثلاً)…

رؤِية استراتيجية واضحة سديدة، قيادة سياسية قوية حكيمة، نخبة مغربية أصيلة عالمة متنورة ومنورة، من أجل بلورةِ نموذج تنموي مغربي سالكٍ إلى معالجة أسباب الداء لا أعراضه (ثالوث الاستبداد والتخلف والتبعية)، وإلى تحقيقِ التقدم والازدهار باستعادة التحكم في زمام الأمور (السيادة الوطنية الكاملة الشاملة)، واسترجاعِ الإشعاع الحضاري للأمة.. إنه الأمل والمأمول و”أعز ما يطلب”، في سياقٍ داخلي يستعجل العمل والتشييد والبناء، وفي سياقٍ خارجي لا يرحم الضعيف والمستضعف والتابع، لكنه يفتح أمام ” أقوياء النفوس” فرصةَ الانبعاثِ، على طريق البلدان الصاعدة والقوى البازغة على أرض الله الواسعة… ولكل اختيار ثمن، وثمنُ التبعية والاستسلام كان دائماً وسيبقى أكثر إيلاماً وتكلفة من ثمن الاعتماد على الذات والمقاومة… والله أعلم.

‫تعليقات الزوار

3
  • مغربي
    الأربعاء 7 غشت 2019 - 16:55

    هناك أشياء كثيرة، سواء تعلق الأمر بالأفراد أو بالدول، لا تحتاج إلى سنين من التفكير والتخطيط بل فقط الاستفادة مما فعله الآخر. نريد تنمية ؟ لننظر إلى الدول التي حققت التنمية : اليابان، الصين، كوريا الجنوبية، النمور الأسيوية. ..نريد لا تنمية ؟ لنستمر في ترديد العبارة المهترئة: ففي فرنسا مثلا…

  • محمد المغربي
    الأربعاء 7 غشت 2019 - 19:56

    63 سنة .. بعد الاسقلال المشبوه ونحن نراوح مكاننا.. واليوم في 2019 لانزال نبحث عن اي نموذج تنموي نتبع.. والامر هين واضح.. مثلا وضع الانسان النزيه الكفؤ الناسب في المكان المناسب ثم الضرب حقا وبيد من حديد على المتلاعبين..لاغير

  • فريد
    الخميس 8 غشت 2019 - 06:48

    لايمكن الحديث عن النموذج التنموي في غياب الديموقراطية التي هي الأساس …نحتاج إلى الشفافية، نحتاج إلى ربط المسؤولية بالمحاسبة، نحتاج إلى الموساوات في الحقوق والواجبات، نحتاج إلى قضاء مستقل لا يتبع التعليمات، نحتاج إلى دولة قانون كل شيء فيها مقنن…أما الحديث عن إعطاء الأسبقية للبادية وخلق طبقة متوسطة فلاحية وفي بلد سنوات الجفاف فيه أكثر من السنوات الممطرة فهذا در لرماد في العيون ، خلق مناطق صناعية أوف شور هدية تقدم للشركات العابرة للقارات اليوم في المغرب وغدا ستهرب إلى دولة أخرى حيث التحفيزات الضريبية أفضل، فتح الباب للمنافسة الخارجية ستدخل الشركات الصينية للمغرب التي تفكر في إطعام مليار ونصف من الصينيين قبل أهل البلد …الحلول المطروحة حاليا هي ترقيعات لِنَبْني أولا دولة ديموقراطية ولنترك للشعب خلق النموذج التنموي.

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02

وزير النقل وامتحان السياقة