الحرس الإداري القديم

الحرس الإداري القديم
الإثنين 9 ماي 2016 - 13:19

كثيرا ما نسمع عن حكومة الظل، والدولة العميقة، واللوبيات السياسية والاقتصادية، وقوى محاربة التغيير، وحتى عن “التماسيح والعفاريت والأشباح وأصحاب الحال” التي لا تحسن إلا فن المعارضة والممانعة، سواء من موقع نفوذها السلطوي القوي، أو من موقعها السياسي أو المدني الضعيف، أو من الموقع المختلط القائم في وسط المنزلة بين المنزلين، كأن الأمر في الأصل صراع بين قطبين متجاذبين فقط : قطب الحداثة والتغيير وقطب المحافظة والتأصيل، ولم ينتبه الجميع أنه في عزّ الصراع العلني أو الخفي بين الموقعين والقطبين العدويين، يعيش بأمان حرس قديم، من أيام امبراطورية نابليون إلى عهد حكومة بن كيران، لا تهّمه الحداثة ولا التغيير ولا المحافظة في شيء، ولا تستهويه لعبة الديمقراطية، ولا المقاربة الحقوقية، ولا المناصفة، ولا حتى قضية الوطن الأولى والثانية والثالثة، بقدر ما يهّمه ويستهويه، موقعه هو في دائرة هذه الحركة الإيجابية أو السلبية، وما قد يخرج به من مغانم وامتيازات ووضع اعتباري، لأنه مستعدّ أيمّا استعداد، وهو في كامل قواه العقلية، ومدرك تمام الإدراك لحساسية وخطورة اللحظة التاريخية الآنية الدقيقة، لأن يكون حداثيا أكثر من الحداثيين، ومفرطا في المحافظة، أو حتى في الرجعية، أكثر من دعاتها وزعمائها الكاريزماتيين، فقط الغنيمة الشخصية ثم الغنيمة ثم الغنيمة، مع قتل النفس ودفن الكرامة وإقبار القيم، هي المراد من هذا اللعب الإجباري مع الكبار أو الصغار.

ولقد عانت الإدارة العمومية المغربية الحديثة من هذا النموذج الاستثنائي الخفي الذي حيّر علماء الإدارة وفقهاء التدبير، وأربك حساباتهم في ترتيب عمليات تنمية وتطوير الإدارة، وتخليق المرفق العام، وتثمين الرأسمال البشري، واسترجاع ثقة المواطن والمرتفق في إدارته العمومية المركزية والترابية، حتى إن فريق الوزير مبديع، وخلفه كل مكونات حكومة بن كيران، الذي قاد ثورة سلمية هادئة أواخر سنة 2014 لتنزيل برنامج إصلاحي لتحديث الإدارة العمومية، قوامه التنظيم والحكامة، والرأسمال البشري، وعلاقة الإدارة بالمواطن، لم يستطع، أو لنقل لم ينتبه، وهو يفتح أبواب حوالي عشرين مشروعا “ثوريا” زعزع الكيان الحجري للإدارة المغربية، بعد المحاولات اليائسة لهزّات وارتدادات 1981 و1995، إلى خطورة الحرس الإداري القديم في وأد ثورية هذه المشاريع، تارة بالمحاباة والنفاق السياسي والإداري والاصطفاف اللامشرط مع الجهة الحزبية الغالبة، وتارة بالإجهاز الذكي والمحتال على مبادرات الإصلاح والتطوير، بوصفات التنويم المغناطيسي الساحر، والتخويف من العواقب الوخيمة الوهمية للقرارات الفردية حسنة النيات والأهداف ؛ وحتى إن استحضر فريق الوزير مبديع بعض أسرار قضية الرأسمال البشري، وشروط التنظيم والحكامة في برنامجه الإصلاحي، ودعا إلى تثمين التجارب والخبرات السابقة، وعدم القطيعة مع مكتسبات الماضي، ومنها مساهمات ما نسميه نحن بالحرس الإداري القديم، وأياديه “البيضاء” على استقرار واستمرار حياة الإدارة، فإن هذا النموذج، الذي لا يعير اهتماما للمصلحة العامة للمرتفقين، ولا يعنيه من مشاريع أو مقترحات القوانين التي تطرق مؤسسة البرلمان، ولا تدافع فرق الأغلبية والمعارضة، ومعها كل مكونات السلطة التشريعية والتنفيذية، إلا ما سيحافظ له على لقمة العيش، وحياة الرفاه والأمان، بعيدا عن صداع ربط المسؤولية بالمحاسبة، وقوانين من أين لك هذا، لن يجتهد إلا في حفظ التوازن بين رغبات و”نزوات” الجهة الغالبة، وطموحات و”أحلام” الجهة القادمة، أي أنه يضع رجلا في رقعة ساحة المسؤول الإداري الحالي، ورجلا في رقعة ساحة مشروع المسؤول القادم، حسب تقديرات سياسية وفلكية يتقنها، ليضمن له موطئ قدم في كل لحظة تاريخية تعيشها البلاد.

ومساهمة منّا في تنوير الرأي العام الذي يعلم للأسف بوجود هذا النموذج الاستثنائي في تفاصيل الحياة الإدارية اليومية الراهنة، ولا يحسن، في الغالب، التعبير عنه، لغويا وإداريا وإعلاميا، نقول إن تركيبة الحرس الإداري القديم، كأفراد ومجموعات، وكسلوك وحالات نفسية واجتماعية، وكسلط تقريرية أو موازية داخل منظومة سلط تنفيذية مظهرية أكبر، تتميّز في نظرنا بمواصفات سيكولوجية وسوسيولوجية سنجملها للقارئ في خمسة مداخل ومظاهر أساسية، ولو أننا نعترف أنها ليست العناصر الجوابية الوحيدة والممكنة للإلمام المفصّل والمقنع والنهائي بكل جوانب هذه القضية الإدارية الاستثنائية المتشعّبة، المرتبطة بالطابور البشري المتخفّي بين ثنايا هيكلة الإدارة العمومية، وهي :

1/ صفة الكينونة الاجتماعية القادرة على الاختراق الأفقي والاستكانة العمودية دون أي إحساس قاهر بازدواجية هذه الأدوار، وتملّك الأدوات البشرية والشيطانية الكفيلة بالإعلان عن الذات كرقم معاملات لا يمكن تجاوزه، والتسلّح ببعض وصفات العنصرية والانتهازية والتوجّس والاستبداد والأنا العليا كلّما كان الفعل الإداري المطلوب في مستوى حجم هذه الفئة أو أقل منها بقليل أو كثير، والظهور بمظهر العارف بزمانه أمام علية القوم، والحافظ لأسرار رؤسائه وشيوخه، والقادر على لعب دور البليد أو المهرّج أو المشوّش أو الداخل إلى خصومات الغير بدون وجه حق، فقط لأن السياق الإداري والإشارات الضمنية العليا تطلّبت منه جهد وأجر هذه المهمة السامية التي لا تردّ.

2/ عدم الثقة في الغير، والاحتراز المبالغ فيه، ومنع تداول المعلومة، إلا ما فلت منها لأسباب جبرية، للحصول المبارك على فضائل ونتائج السبق المعلوماتي، أو على هامش الربح المنتظر من تخزين وإنضاج المعلومة والانفراد بحدث الكشف عنها، والتعفّف عن الظهور بمظهر الثراء في الكساء والغذاء، ونوع السيارة الشخصية المستعملة، وحتى في ساعة اليد المتواضعة، والمحفظة المعلومة التي تحمل شعار إحدى اللقاءات الوطنية الميتة، والحذاء الأسود اللامع الذي لا يتغيّر، والانتظام في حضور مآتم وأحزان الرؤساء وأقربائهم وجيرانهم، لإخراج ما في الجبّة من عظيم الولاء، والمشاركة القلبية الصادقة لقدر الموت ولوعة الفراق، رغم أن هذا الحرس الإداري، لو نصّبوه قائدا عليهم، لأرسل الجميع إلى الجحيم دون أن تتحرّك فيه طرفة عين.

3/ الحرس الإداري القديم نوعان : نوع له مؤهّل دراسي كبير، وتمرّس إداري ومهني أكبر من المطلوب، يؤهّله، وفق القوانين الجارية، إلى الحصول الممكن على القيادة والمناصب السامية، ونوع، رغم خبرته وتجاربه التي نال بها عند زملائه صفة القيدوم، يظل محدود شواهد التعليم والتكوين، غير إن الاثنين معا يفضّلان المقاعد الخلفية، مباشرة خلف السادة الوزراء والمسؤولين السامين في التشكيلة الحكومية والإدارية العامة، ولا ينزعجان من حمل حقائبهم الجلدية المذهّبة، ونظاراتهم الطبية أو السوداء، وأقلامهم المصنوعة من حبر خاص، وأوراق خطاباتهم وكلماتهم التاريخية المختصرة أو الطويلة، ولا حتى من تأبّط أحذيتهم البيضاء أو الصفراء عندما يتعلق الأمر بحضور لقاء ديني بالأماكن المقدّسة، ويقومان بدور الملقّنين، والمستدركين، والمصحّحين، والموزّعين خفية للأوراق الصغيرة المطوية في عز الصّمت المطبق والاستماع بتركيز وانتباه لخطاب المسؤول الأكبر، وهما مقتنعان أو راضيان بوظيفة المساعد الأقرب، الذي يدفع إداريا بالقرار في صفة مقترح، وبالرأي الإجباري على شكل استشارة اختيارية، دون تابع ولا متبوع، ودون مسؤولية التوقيع، ومحاسبة المؤسسات والهيئات الدستورية والرأي العام، ودون أداء الضرائب عن أرباح غير مصرّح بها.

4/ الحكومات والمؤسسات المتتالية، من الوسط المعتدل ومن أقصى اليمين وأقصى اليسار، بوعي أحيانا وبغير وعي أحيانا أخرى، ورغم استقدامها لجيوش الموالين للأحزاب التي حازت على صفقة التدبير، وتنصيبهم مدراء ورؤساء دواوين، ومستشارين قانونيين واقتصاديين واجتماعيين وثقافيين، ورغم جذبة موسم إفراغ المناصب الإدارية السامية ونصف السامية، وإعادة ملئها بالأتباع والمريدين من الأطر الأكفاء والجهلاء، لا تستطيع الاستغناء عن الحرس الإداري القديم، رغم ما قد تشتمّ في بعضه من الروائح غير الزكية، لأنه في الواقع يملك مفاتيح التدبير، ومراجع التأطير، وضمانات التسيير والاستقرار، بل إن بعض أعضاء هذه الحكومات والمؤسسات، في غيبة مستشاريهم الحزبيين، ينفردون بمكونات هذا الحرس، ويعدّدون مناقبها وفتوحاتها، رغبة في ضمان ولائها، وفتح خزائن صدورها وعقولها ؛ ولأن هذا الحرس الذكي مدرك لقوانين اللعبة، وعلى علم تام بنصيبه فيها، فإنه يتظاهر بالعشق الإداري، والغرام المهني، وحتى بإظهار مطلق الولاء والاستسلام بإشارات فك الحزام، للدخول إلى معترك القيادة، وإعادة حفظ التوازن، والإبقاء على خزّان المكاسب والمغانم، عبر تحويل لغة الوزير أو المسؤول من 160 درجة في السنة الأولى، إلى 80 درجة في السنة الثانية، إلى 40 درجة في السنة الموالية، ثم إلى محطّة اللغة الخشبية في السنة ما قبل الأخيرة، كي يقتنع الشعب أخيرا أن أبناء عبد الواحد، في الوسط واليمين واليسار، هم في الأصل واحد، وأن الحرس الإداري القديم هو القيمة النادرة التي لا تتغيّر. وبمعنى آخر إعطاء الشرعية القانونية لمن لا شرعية سياسية وديمقراطية له، والإيمان بأن منظومة السلطة التنفيذية بالأخصّ التي حملتها صناديق الاقتراع بشفافية ونزاهة، تتربّع في داخلها منظومة سلطوية أخرى أقلّ منها حجما وظهورا، لكنها أكثرها حضورا وتأثيرا، لأنها تقوم بالوظائف المصيرية التالية، التي تحمل توقيع وتأشيرة المسؤول الأول المغلوب على أمره، أو الجاهل باختصاصه، أو المعزول عن شؤون مؤسسته، أو المشغول بمعارك وهمية جانبية لا نستبعد ضلوع الحرس الإداري القديم في المساهمة المباشرة أو غير المباشرة في إطلاقها، وهي كالآتي :

إقبار المبادرات الفردية أو الجماعية الخارجية في المهد، خاصة إن كانت تحمل معها بعض نسمات التغيير أو التجديد أو التجاوز، وفي أحسن الأحوال الإلتفاف عليها، وتغيير بعض مفاتيحها الشكلية لتقديمها خالصة باسم الحرس الإداري القديم ؛

طول النفس والصبر في مسايرة حماسة وثورات ونزوات وشهوات مسؤول الواجهة، الذي حملته صناديق الاقتراع إلى تدبير الشأن العام، إلى أن تعيده إلى الصّفّ ؛

الجرأة والوقاحة في إعلان برنامج حزب الوزير أو المسؤول، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، قدوة برنامج عمل قطاع الحرس الإداري القديم، و”قتله” النفس في العمل لمدة قد تصل إلى عشرين ساعة في اليوم، والاعتذار عن عطلة السبت والأحد والأعياد والعطلة السنوية، وجمع النهار بالليل، وعدم التردّد في الجواب الفوري على رنّات الهاتف المحمول من فوق صدر الزوجة المسكينة، التي يجب أن تقطع أنفاسها، وتشدّ ارتخاء عضلاتها، احتراما للمكالمة المباغثة لولي النعمة المغبون ؛

صناعة نماذج مصغّرة من الحرس الإداري القديم، بلا أسنان ولا أنياب، ولكن بنفوس ضعيفة ومرعوبة، وآذان طويلة وعيون جاحظة، تلتقط كل ما يروج داخل وخارج المؤسسة بعشوائية، وتحمله بالجملة، وبالغباء المفرط، إلى مواقع التصفية وإعادة المعالجة حسب الحالة ؛

إشهار سلاح الدوريات والمذكرات والقرارات والاجتماعات والمحاضر التي تطلّ منها عبثية السلطة الضمنية القاهرة للحرس الإداري القديم، والتي يمكنها أن تغيّر في مضامينها، وتستبدل قرارا بقرار، ومذكرة بأخرى، في نفس الفترة الزمنية، مادام القلم السحري الذي سيوقّع ويؤشّر، طيّعا في اختياراتها، ومسؤولا مدنيا وجنائيا وأخلاقيا وإداريا على فلتات نزواتها ؛

الاتصاف بالقيم الظرفية والمهزوزة الموصولة بإشارات التضحية والمثابرة والإخلاص، وحتى بداية الاستعداد للشهادة، أو القبول، في أسوأ الأحوال، ببعض المهام الوسخة التي قد تصل إلى مستوى “القوادة” العصرية المؤدّى عنها، وذلك في سبيل الحفاظ على الراتب القار المحترم، وعلى شركائه الموسميين الأفاضل، وعلى الوضع الاعتباري، والضحك في الأخير على ذقون دعاة سلطة الصناديق.

5/ كثيرا ما يتردّد في بعض مشاهد السينما الهوليودية، من قلب مواقع الآثار الرومانية واليونانية، القولة العسكرية والشعبية الشهيرة : “مات الملك، عاش الملك”، وهذا هو لسان حال الحرس الإداري القديم كلما انتفضت دواليب الحركية الإدارية والسياسية العادية أو الاستثنائية ؛ فهو دوما على أهبة الاستعداد النفسي والمهني والإداري لتقبّل رجاحة أو حماقة قرارات التغيير في هرم السلطة، بتوديع الوزير أو المسؤول السابق بدمعتين مشبوهتين مؤدّى عنهما، والتهليل بالوزير أو المسؤول الجديد الذي حلّ بالمؤسسة لإنقاذها من أعراض السكتة القلبية، وإظهار كامل الولاء وباقي فقرات إسطوانته المشروخة المألوفة، وهو يقسم بأغلظ الإيمان أن المرحلة السابقة لم تنل حتى صفة المرحلة “القصديرية”، وهي مرحلة غير مأسوف عليها، وأن العناية والألطاف الإلهية قد جاءت بالمنقذ من الضلال من السماء رحمة بقطاعها المغبون ؛ أي إن الخارجين والداخلين، والسابقين واللاحقين، وفق اللعبة الديمقراطية والقانونية المتفق عليها، من الزعماء والقياديين والأطر العليا وباقي الساسة، هم إلى زوال، ومنهم حتما فريق الوزير مبديع الذي قاد ثورة إدارية إصلاحية هادئة لن تكتمل، وسيبقى جاثما على القلوب الحرس الإداري القديم الذي لا يخضع لمنطق الحركية الإدارية أو السياسية، ولا للتناوب على السلطة، ولا للتداول في الحكم والتدبير، ولا هم يحزنون.

إن الحرس الإداري القديم، بهذه المواصفات القهرية الخمسة المذكورة، قد ألحق الأذى والضرر بخمسة أعضاء في جسم مشروع تطوير الإدارة العمومية ؛ وإننا نعترف أيضا أنها ليست الأعضاء الوحيدة التي طالها الخلل والعطب، بل أكيد أن أعضاء أخرى، ظاهرة أو باطنة، قد تضرّرت من اختلال منظومة المشروع، غير أننا سنكتفي في هذا المقال بالإحاطة بأوجاع هذه الأعضاء الأساسية التي ستغنينا بمؤثراتها السلبية عن مزيد من التفصيل في شرح الواضحات، وهي :

1/ تعميق جراح الإدارة العمومية بتوقيف عقارب التطوّر، والمساهمة في نمذجة حالة تكرار نفسها رغم التحوّلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية السريعة، والابتعاد عن شروط النجاعة والفعالية والقرب والتجويد، بتكريس قيم الخوف والشكّ والتردّد وعدم المغامرة غير المحسوبة، التي تربط بين مبادرات مشاريع التطور والمستقبل السياسي للأشخاص. وهذه حالة مرضية ترهن البلاد بعمليات التجريب الشخصية التي تتبدّل من مسؤول إلى مسؤول، وتحيل مخطّطات المدى المتوسط والبعيد إلى مجرد أوهام لن تعيش معها الإدارة العمومية أية مرحلة استقرار. والأكيد أن الحرس الإداري القديم، في ظل هذا التجريب وهذه الحيرة والضياع، سيظل هو المستفيد الأكبر، وهو سيد الميدان بامتياز.

2/ ضرب مبدأي التنظيم والحكامة بتحويل القاعدة إلى استثناء والاستثناء إلى قاعدة، وتغليب كفة العرف على كفة القانون والعقل، من خلال تحويل الإدارة العمومية، التي من المفترض أنها تقدّم خدمة عمومية في وسط مفتوح وبيئة منفتحة، إلى شبه ثكنة عسكرية يحذر معها تداول المعلومة، وتنتشر فيها التعليمات الشخصية – الشفوية في الغالب – بدل التنظيمات الإدارية المكتوبة، ويتم اختراق الهيكلة الإدارية المنصوص عليها في القوانين الأساسية أو المنشورة في الجريدة الرسمية، سواء بتحويل الهرم إلى قاعدة أو القاعدة إلى هرم، أو خلط أوراق واختصاصات “ساكنة” الوسط، وتبقى المرجعية الوحيدة والممكنة للالتجاء والاحتماء والمساندة والتداول والاستشارة والتحكيم هي الحرس الإداري القديم، الذي بدونه لا تقوم قائمة للإدارة العمومية ولا لمختلف أصناف مواردها البشرية، بعد أن تم عزل المسؤول الأول عن تدبير شؤون العاملين وملفات مديرياتهم وأقسامهم ومصالحهم التي لا تجلب إلا صداع الرأس.

3/ ازدواجية سلطة القرار وازدواجية القيادة الإدارية يشكلان محنة يومية يعاني منها العاملون بالمؤسسة والمرتفقون على السواء، فمن جهة هناك السلطة الفعلية بأمر الواقع التي يستمدّها الحرس الإداري القديم من وضعه الاعتباري كصاحب الحكمة والتجربة والأقدمية والموعظة الحسنة، ومن جهة ثانية هناك القيادة الإدارية الشرعية القائمة التي أصبحت، بأمر الواقع كذلك، تتقن استعمال وتصريف اللغة الخشبية ؛ أي أننا أصبحنا أمام منظومة سلطة مركزية اعتبارية داخل منظومة سلطة شرعية أكبر، تفكّر وتدبّر وتقرّر نيابة عن مسؤول الواجهة الذي تم تنويمه، وتضخيم الأنا العليا في جمجمته، باعتباره مهندس الاستراتيجيات والمخططات والسياسات العمومية، وليس وسيطا إداريا متفرّغا لفك النزاعات والخصومات الروتينية، حتى وإن كان تقزيم قضايا المناخ الاجتماعي القطاعي قادرا على أن يوقف عجلات أكبر المشاريع الوطنية أهمية.

4/ تقليص حجم ونوع القوة العاملة والفاعلة بالمؤسسة بقتل روح المبادرة والإبداع عبر تمارين يومية بسيطة في لعبة التشكيك في القدرات والكفاءات، ودفع أصحاب هذه المبادرات إلى الدخول الإجباري في حالات هذيان شخصي، تجمع بين النقد الذاتي والشك في تفاصيل تركيبة المنجزات، والاستسلام لهذا الخلط الذي ضاعت فيه الحقيقة بين المعرفة الشخصية والقاعدة والاستثناء. وبهذا الوضع الاعتباطي تتحوّل القوة العاملة والفاعلة تدريجيا إلى قوة أصغر ثم أصغر، إلى أن تصير مجرد خلية تابعة، تأتمر بأمر الحرس الإداري القديم في استعارة أدوات التفكير والبلورة والتنزيل والتقييم، أما القوة العددية الكبيرة المركونة في الرفّ، فقدرها أن تعيش عطالة مقنّعة، تنظر ببلاهة إلى عمليات تدجين كفاءاتها ولا تقوم بأي ردّ فعل.

5/ علاقة الإدارة بالمواطن هي من العلامات السيئة الكبرى الأخيرة التي يخلّفها الحرس الإداري القديم دون أن يعي أن في ذلك جنحة أو جناية أخلاقية بالدرجة الأولى، إذ إلى جانب غياب النجاعة والفعالية والمردودية وجودة الخدمات الإدارية المنتظرة، يمكن الحديث الجريء في هذا الباب بالذات عن اغتيال الديمقراطية التي منحت، بأصواتها الحرة، سلطات التدبير لجهة حزبية ما، ثم في يوم وليلة، استفاقت على حقيقة تدبير المؤسسات أو البلاد من طرف جهة أخرى غير معلومة، ولا يمكنها أن تكون موضوع محاسبة سياسية أو إدارية أو شعبية، لأنها، وإن كانت تملك مفاتيح القيادة وتقوم بمهام السياقة، إلا أنها في الأصل، وفي البداية والنهاية، ليست لها سلطة التوقيع والتأشير والمسؤولية التي تتعقّبها عيون المحاسبة.

والآن.. ما العمل حيال هذه الورطة البنيوية التي تنخر بنيان وأحلام الإدارة العمومية ؟ وكيف لهذه الحكومة الحالية، التي تتباهى بفتوحاتها الإصلاحية، أن تساير وثيرة تنزيل برنامجها التنفيذي لتحديث الإدارة المغربية، بمحاوره الثلاثة المذكورة سابقا، دون أن تكون قد تمكّنت في السابق من تشخيص الوضعية الصحية للإدارة العمومية، وصادفت عضوا غريبا، في حجم الحرس الإداري القديم، يتحفّز لامتصاص كلّ حقنات وجرعات التغيير الموصى بها ؟

نعتقد أن نزوة “الضريبة على الثروة” التي طافت فوق رؤوس التشكيلة الأولى للحكومة الحالية، وما أعقبها من ممانعة وتهديد وشروع في تهريب الثروات، لا تصلح رمزيتها في هذا الباب، كما لا يمكن الأخذ بالقولة الشهيرة : “آخر الدواء الكي”، لأن الحرس الإداري القديم سيعلنها ثورة همجية تأتي على الأخضر واليابس، وقد تتوقّف دواليب الإدارة المغربية، أو في أحسن الأحوال قد تختلّ بعض مكونات منظومتها الموجّهة للخدمة العمومية، غير أن الأكيد أن ما لا يأخذ كلّه لا يترك كله، وأن التدرّج في المواجهة اختيار تكتيكي لا بد منه، لأن في هذا الحرس فئة من الشيوخ والتقاة الذين، رغم محافظتهم المفرطة، يحبون البلاد حبا جما، إلا أن السواد الأعظم منه، الذي تجده منتشرا في المصالح الحكومية والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، وحتى في السفارات والقنصليات الخارجية، يشدّ بالنواجذ على الرواتب والامتيازات والوضع الاعتباري، ولا يهمّه المخطط الأخضر أو الأزرق أو الأسود، ولا الطبقة الوسطى ولا السفلى، ولا مقاربة النوع ولا المناصفة ولا بشائر الدستور الجديد ؛ ومن هنا يبدأ المدخل الأول لتشغيل تيار الصدمة الكهربائية على جرعات، وترويض الأسود والصقور على ثنائية الحق والواجب، وعلى الانتماء فقط إلى الوطن الذي يضمن لكل المواطنين، على حد سواء، حاجتهم الطبيعية من الكرامة والرفاه ؛ مع توجيه كتاب توبيخ شديد اللهجة إلى كل وزير أو مسؤول إداري ثبتت في حقّه تهمة تسليم كلّ أو بعض اختصاصاته الدستورية، عن وعي أو غير وعي، إلى الجهة التي كانت تسمّى قيد حياتها : “الحرس الإداري القديم”.

‫تعليقات الزوار

2
  • الزين المسرار فرانكفورت
    الإثنين 9 ماي 2016 - 15:55

    الدولة العميقة.. فرية أم حقيقة

    حقيقي أن ميركل تحكم الألمان ، وقد كنت بينت كيف أن ميركل لا تحكم الألمان بمنطق جدلية الحاكم الشمولي ولكن الألمان محكومون بوعيهم التاريخي ، وهذا بالتحديد ما أؤكد عليه حتى اليوم ولو بمنطق معكوس ، ذلك أن المغاربة محكومون هم أيضا بمنطق الوعي التاريخي أي تمثل المغاربة للسلطة ، فالسلطة هنا ليست أشخاصا بقدر ماهي هياكل فارغة ، فالذين اعتقدوا جازمين أن الدولة المغربية هي الحسن الثاني وإدريس البصري خاب ظنهم ، فقد مات الحسن الثاني من الله ومات إدريس البصري من الهم وبقيت الدولة قائمة مادام جوهرها كائنا الذي هو الملكية .

    خالد لشهب
    03‏/05‏/2016

  • وللقارئ رأي
    الإثنين 9 ماي 2016 - 17:07

    حنى الامم المتحدة لن تستطيع القيام بهدا التشخيص ،الا جردا ،المصطلح يطرح اشكاليات ،الحرس القديم ،البعض يعرفه بالبيروقراطية ،وهو تعريف اقرب الى العلمية والموضوعية ،وربما الدين يقترحونه ،يرومون التهوين من خطورته ،وتقديمه كخلل تنظيمي اداري طبيعي ،تعاني منه كل الدول بدرجات مختلفة ،والبروقراطبة مصطلح غير سياسي،اي كما يقول المثل الشعبي ،،،مع الواقف ،،،بينما مصطلح الحرس القديم ،هدا له مدلول سياسي ، هو حرس لقيم ماض ما،ادا كنت تقصد الادارة الاستعمارية فهؤلاء اغلبهم رحلوا الى دار البقاء،والغريب انه من بين هده الفئة لم يترك لنا اي منهم مدكرات صريحة عن كواليسها .مقاربة مُبديع،خاطئة كليا،بل ظالمة،لانه هناك موظفون استعملوا الزبونية والمحسوبية والرشاوي للالتحاق والانتقال بمراكز عمل ،هي أصلا ليست في حاجة اليهم وعندما التحقوا تمكنوا،وعن طريق المحسوبية والرشوة من احتلال مواقع أساسية في الادارة بتهميش أصحابها الأوائل ،الدين أصبحوا معطلون تقنيا،بل موظفون اشباح رغما عنهم ،ليأتي السيد مُبديع في اخرالنهار يهددهم بالطرد او الالتحاق بمراكز العمل في مدن اخرى وتشتيت عائلاتهم،فهل هدا إصلاح ؟ام زيادة في الإفساد .

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش