فاجعة البوغاز

فاجعة البوغاز
صورة: هسبريس
الجمعة 12 فبراير 2021 - 23:55

لم تكد تخمد نيران مجزرة حي الرحمة بسلا التي أودت بحياة عائلة بطريقة غاية في التوحش والبشاعة، حتى استيقظ الرأي العام الوطني على فاجعة طنجة التي شهدت هلاك ما مجموعه 28 عاملة وعاملا قضوا غرقا بورشة للنسيج بمرآب تحت أرضي بفيلا سكنية بحي الإناس بمنطقة المرس بطنجة، وهم في رحلة كفاح شاق بحثا عن لقمة عيـش تقي حر الفقر والبؤس والهشاشة، انتهت آخر أشواطها على إيقاعات التراجيديا، وهي فاجعة مؤلمة تذكرنا بمأساة “روزامور” لصناعة الأفرشة بالدار البيضاء قبل سنوات، التي أودت بحياة أزيد من 50 عاملا عبر الحرق البشع.

ما حدث في “روزامور” بالدار البيضاء قبل سنوات، سيعاد إنتاجه وبدون شك في مدينة البوغاز بالحسرة والمآسي نفسها والإدانة والاحتجاج ذاتهما، مع اختلاف في الأمكنة والأزمنة والضحايا والفاعلين والمتدخلين، والسيناريو نفسه الذي يمر عادة عبر “الإدانة” و”فتح التحقيق” و”الاعتقال” الذي غالبا ما يطال من يدخل في خانة “الحيط القصير” للخروج من عنق زجاجة المأساة، وعقبها تنتهي الحكاية وتعود حليمة إلى عادتها القديمة وترفع من جديد يافطة “قولوا العام زين” في انتظار فاجعة جديدة نعيد من خلالها إنتاج ما يسيطر علينا من أفكار وردود فعل “منتهية الصلاحية”.

فاجعة البوغاز على غرار مأساة “روزامور”، تضعنا أمام أسئلة محرقة ومؤلمة في الآن ذاته بشأن العديد من الورشات والوحدات الإنتاجية التي تمارس في إطار “القطاع غير المهيكل” بعيدا عن سلطة القانون وبمعزل عن ضوابط الأمن والصحة والسلامة، وفي حالات كثيرة على مرأى ومسمع من السلطات المختصة، وإذا كانت جريمة شهداء لقمة العيـش واضحة المعالم ومكتملة العناصر ولا تحتاج إلى تفسير أو تأويل أو حتى تبرير، يبقى السؤال الجوهري: من هو الفاعل أو المجرم الحقيقي؟

في هذا الصدد، فإذا كانت بعض الأصوات لن تتردد في توجيه صكوك الإدانة والاتهام إلى “المشغل” وتحميله وزر ما وقع من مأساة لا يمكن قطعا إيقافها أو التصدي لها، فلن نتردد بدورنا في القول إن المجرم الحقيقي هو أبعد وأعمق من مشغل كان يشكل مصدر رزق بالنسبة للكثير من الأشخاص والأسر بغض النظر عن “سرية” أو “قانونية” الوحدة الصناعية التي يسيرها؛ المجرم الحقيقي هو “الصمت” و”التواطؤ” و”انعدام المسؤولية” و”العبث” و”الفساد” بكل تعبيراته و”غياب الضمير المهني” و”التقاعس عن أداء الواجب” و”الجشع” و”الطمع” و”الفوضوية” و”انتهاك القوانين والضوابط”…

بصورة أوضح، المجرم الحقيقي هو كل من يرعى الفوضى ويتواطأ مع الفساد ويطبـع مع كل الممارسات الخارجة عن سلطة القانون، ويتقاعــس في أداء الواجب المهني، هو كل من تسيطر عليه الأنانية المفرطة ويلهث جريا وراء المصالح الضيقة، هو كل السياسات “غير المسؤولة” المكرسة للفوارق الاجتماعية والتباينات المجالية والمعمقة لبــؤر الإقصاء الاجتماعي، التي تفرض على الكثير من “الغلابى” والبسطاء الاشتغال في ظروف مهنية جسيمة في سبيل انتزاع لقمة عيـش في واقع سوسيو-اقتصادي لا يرحم أبدا، هو كل من يضع “العصا فالرويضة” أمام الوطن ويمنعه من كل فرص النهوض والارتقاء التنموي… هو كل مسؤول أو كل المسؤولين الذين حولوا المدن إلى مجالات بئيسـة غارقة في الفوضى بكل تعبيراتها.

فاجعة البوغاز ما كان لها أن تحدث لولا سلطة الأمطار، التي باتت تنوب عنا في الكشف العمدي عما بات يتخلل الممارسات السياسية والتدبيرية من مظاهر الارتباك والارتجال والأنانية والاستخفاف بالمسؤوليات، بعيدا عن آليات الحكامة وما يرتبط بها من شفافية ونزاهة ومسؤولية ورقابة ومحاسبة.

وعليه، واستحضارا لحجم وعمق المأساة وآثارها النفسية والاجتماعية على أسر الضحايا، بات من الضروري “فتح نقاشات مسؤولة” بخصوص التوجهات العامة التي تؤطر سياسة إعداد التراب الوطني وبرامج التهيئة الحضرية والريفية، في ظل الأزمات متعددة المستويات التي تتخبط فيها كثير من المدن والأريــاف، والحرص على إيجاد حلول وبدائل حقيقية من شأنها الدفـع في اتجاه إدماج “القطاع غير المشكل” في النسيج الاقتصادي الوطني، والرهان على تنزيل “ميثاق اجتماعي جديد” يتأسس على مبادئ وقيم المساواة والكرامة والعدالة الاجتماعية والمواطنة الحقة واحترام روح القوانين و”ربط المسؤولية بالمحاسبة” وتفعيل آليات “عدم الإفلات من العقاب”…

فاجعة البوغاز كشفت في شموليتها عن المستور وفضحت المفضوح، في واقع سياسي وحزبي باتت كل أطواره ومشاهده تختزل في الانتخابات والحملات الانتخابية المسعورة والركض وراء المصالح الضيقة واللغط والجدال والعناد، والتهافت وراء المناصب والكراسي وما تجود به السياسة من “ريــع”، والمحصلة ما نعيشه اليوم من نكسات اجتماعية وتنموية، فرضت المضي قدما في اتجاه “نموذج تنموي جديد” يصحح مسارات التنمية الشاملة ويدخل البلد إلى مرحلة “المسؤولية” و”الإقلاع الشامل”، ومن المؤسف جدا أن تطال حبال المآسي أعناق البسطاء والضعفاء و”الغلابى” الذين لا حول لهم ولا قوة، وهذا ما يجعل المغرب يتربع في مؤخرة عدد من المؤشرات الدولية وفي طليعتها “مؤشر التنمية البشرية” الذي يتأسس على ثالوث “الصحة” و”التعليم” و”الدخل الفردي”.

مأساوية الفاجعة تفرض استعجال الانتباه إلى أبناء وأسر ضحايا لقمة العيــش، ليس فقط من باب الدعم النفسي والاجتماعي، ولكن أيضا من باب تعويضهم المادي جراء ما حدث بعيدا عن التعقيدات القضائية والإدارية، مع توجيه البوصلة بالأساس إلى الأبناء/ التلاميذ الذين باتوا في دائرة الأيتام بعدما فقدوا في لمحة بصر الآباء أو الأمهات أو ربما هما معا، في انتظار التحرك الحقيقي والمسؤول الذي من شأنه القطع مستقبلا مع فواجع مماثلة، وليس أمامنا اليوم إلا أن نترحـم على أرواح الضحايا سائلين الله عز وجل أن يشملهم بواســع الرحمة والمغفرة، وأن يلهم ذويهم الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعــون.

على أمل أن نستوعب الدرس مرة أخــرى، كفانا مضيعة للوقت، كفانا هدرا لزمن الإصلاح، كفانا أنانية، كفانا جشعا، كفانا “حلبا” للوطن، كفانا استخفافا بحياة البسطاء و”الغلابى” والمقهورين… فما أحقر السياسة إذا كانت مكرسة للبؤس والإقصاء الاجتماعي، وما جدوى الفاعل السياسي إذا لم يجد الحلول ويتخذ القرارات ويقترح البدائل التي من شأنها تجويد سبل الحياة وزرع الأمل وتحقيق النهوض والارتقاء التنموي… بل ما قيمة “المسؤولية” ما لم تربط بالمحاسبة والعقاب وترتقي بالإنسان.

ونختم المقال بالقول: لا نوزع صكوك الاتهام عبر هذا المقال، ولا نترافع دفاعا عن طرف دون آخر، تاركين ذلك لأهل الاختصاص، وليس في جعبتنا إلا “قلم” يمنحنا جرعات من القوة والشجاعة، للترافع دفاعا عن الوطن، متحررين من أي مؤثرات سياسية أو حزبية أو جمعوية أو إعلامية أو حتى نقابيــة، تتحكم في الأفكار وتوجه الرؤى والتصورات والقناعات، لذلك، فنحن لا نتردد في التألم متى تألم الوطن ولا نتقاعس في رفع يافطة الإدانة والاحتجاج متى علا صوت العبث والأنانية المفرطة والمصلحة والارتجال، في واقع سياسي واجتماعي لم يعد يسر الناظرين، ومن أجل الوطن كتبنا ومن أجل الوطن سنكتب ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، على أمل أن نكون جميعا خداما أوفياء للوطن في أفق “نموذج تنموي جديد”، لا يمكن قطعا كسب رهاناته الآنية والمستقبلية، إلا إذا حضرت شروط الوطنية الحقة وما يرتبط بها من انضباط والتزام وتضحية ووفاء وتضامن واستحضار للصالح العام وعدالة اجتماعية ومسؤولية ومحاسبة.

[email protected]

‫تعليقات الزوار

1
  • الوطن گيشي فلحيط
    الأحد 14 فبراير 2021 - 02:48

    حقا فاجعة عظيمة بكل مقاييس الامطار التي هطلت على مدى عقود بطنجة تلك الزخة المطرية الرهيبة الماهولة الاف امتار مكعبة من سيل المياه الهادر استعرض عضلاته على الشغيلة المناضلة لاجل سداد لوعة الجوع و توزيع المسؤولية الجنائية يجب ان يتقاسمها الجميع مع الدولة حيث الدولة عليها المساهمة في تحمل المسؤولية بـ %51 على الاقل لتضمن التحكم بالصندوق و الـ 49 المتبقية من اسهم الجريمة مناصفة تتقاسمها الفئة التي تقع عليها مسؤولية جبر الضرر و الغاية اكمال نصاب الحقوق 100 بالمئة بحق من جاهد و استشهد بالمعركة العظيمة الفاجعة على التوالي بعد حرب سلا الاخيرة التي لم يسلم منها الكلاب و اي تشخيص للفاعل و اشهاره او الفاعلين يدخل في نطاق الاعتراف و الانصياع و الخضوع لاطراف مجهولة و به وجب البلاغ

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات