'الميثاق الجامع' و(الضرورة السياسية)

'الميثاق الجامع' و(الضرورة السياسية)
الأحد 12 يونيو 2011 - 19:54

بسم الله الرحمن الرحيم


تذكير


سألتُ في المقالة السابقة “الميثاق الإسلامي في الأصل المنهاجي“، التي عرضت فيها لفكرة “الميثاق الإسلامي”، كما تَصوّرَها وعرضها الأستاذُ ياسين في كتاباته، إن كان “الميثاقُ”، الذي تدعو إليه الجماعة اليومَ، هو نفسه الميثاق الذي تحدث عنه الأستاذُ ياسين.


وأبدأ هنا، أولا، بالتذكير بأهم مُميزات “الميثاق الإسلامي”، الذي تحدث عنه الأستاذ ياسينُ في كتاباته، وهو النسخة الأصلية، ثم أتكلم، ثانيا، عن الميثاق في نسخته الجديدة.


لقد بيّنت في المقالة السابقة أن “الميثاق الإسلامي”، في الأصل المنهاجي، أي في تنظير مرشد جماعة العدل والإحسان، يتميز، أولا، بأن زمانه بعدَ القومة الإسلامية، وأنه، ثانيا، دعوة لغير الإسلاميين من موقع القَويّ المُنتصر، وأنه، ثالثا، مشروعُ تعاهد وتعاقد يُدعى الفضلاء المنافسُون للدخول فيه بشرط يشترطه الإسلاميون الغالبون. هذا ما نقرأه واضحا في كلام الأستاذ ياسين، ولا نقرأ غيرَه. ولهذا، يمكنُ وصف هذا “الميثاق الإسلامي”، الذي يطرحه مرشد الجماعة في كتاباته، وخاصة في كتاب “العدل”(ط1، سنة2000)، بأنه “ميثاق الغالب”، لأن هناك في المُتواثِقين المُفترَضين طرفا يَشترط على طرفٍ آخر من موقع القوة.


وحتى لا يذهبَنّ الظنُّ بأحد إلى تأويلات لكلامي بعيدةٍ، أو تحميلِه أكثرَ مما يقول، فإني أبادر مؤكدا ومُذكّرا بأني، فيما أسوقه، لا أخرج عن دائرة وصف ما هو مكتوبٌ ومبسوط في كتابات الأستاذ ياسين بالعبارة الصريحة.


قد يعترض معترضٌ بأن الأستاذ ياسينًا، فيما يُسميه “ميثاق جماعة المسلمين”، إنما هو يفرض رأيَه وإرادَته على الآخرين. فإذا كان الميثاقُ تواثقا وتعاهدا وتشاركا وتراضيا وتوافقا، فإن ما يدعو إليه الأستاذُ ياسين ليس فيه شيءٌ من هذا، يُضيف هذا المعترضُ المُفتَرَضُ، لأن اشتراطَه على المَدعوّين شروطا يُفرغ الميثاق من معنى التراضي والتوافق، ويُحيله مشروعا مفروضا من جانب واحد، وهو جانبُ القومة الإسلامية المنتصرة.


أنا لا أستطيعُ أن أنْكر أن ظاهرَ كلامِ الأستاذ ياسين يحتمل شيئا مما يذهب إليه هذا الاعتراضُ، لكني لا أعتقد أن مرشد الجماعة يقصد ذلك عمْدا، وإنما الأقربُ إلى مقصود الرجل-وهو رجلٌ دعوة أولا قبل أن يكون رجلَ فكر وسياسة وحِجاج- أن الأستاذ ياسينا حينما يشترط الإسلامَ مَرْجعا أساسا لا نقاشَ فيه للدخول في “ميثاق جماعة المسلمين”، فإنه يفعل ذلك انطلاقا من إيمانه بأن لا شيءَ يُمْكن أن يجنّبنا الفرقةَ والفتنةَ والشقاقَ والتقاتلَ غيرُ الإسلام، وهو دينُ الغالبية، والفضلاءُ الديمقراطيون الذين يدعوهم الأستاذ ياسين إلى هذا الميثاق لا يفتأون يُعلنون ويؤكدون ويصرّون على أنهم جميعا مسلمون.


إذن، حسب رؤية الأستاذ ياسين، فليكنْ هذا الأساسُ الدينيّ الذي نتفق عليه جميعا هو منطلقَنا إلى التعاهد والتواثق، ولكل واحدٌ الحريةُ في أن يرفض هذا الميثاقَ، وأن يدافعَ عن رفضه أمام الناس حتى تكون المواقفُ واضحةً، والاختياراتُ ناطقةً بتوجّهات أصحابها، وحتى يَظهر كلُّ طرف أمام الناس بمظهره الحقيقي، لا يراوغ، ولا يُدلّس، ولا يتهرّب، ولا يناور، ولا يلفّ، ولا يدور، “ليَهلِك من هلَك عن بيّنة، ويَحْيَى من حَيِيَ عن بيّنة”.


وأنا أرى أن جوهر الإشكال كامنٌ في حقيقة هذا الإسلام الذي يدّعي الجميعُ الانتسابَ إليه والتشبّثَ به.


فمن الفضلاء المَدْعُوّين لميثاق جماعة المسلمين ديمقراطيون ليبراليون، ومنهم لائكيون(علمانيون)، ومنهم لادينيون، ومنهم يساريون ملحدون، ومنهم متحرّرون مُخلّطون، ومنهم “سلفيون” متعصبون، ومنهم صوفيون مغالون، ومنهم غير هؤلاء من الطوائف والاجتهادات والمعتقدات والتيارات.


فكيف يُمكن أن نوفق بين جميع هذه الاختلافات في “ميثاق” نصفه بأنه إسلامي، ومعتقداتُنا ومذاهبُنا واختياراتُنا على هذه الصورة من الاختلاف والتفرّق والتعارض؟


نعم، هناك أصولٌ وأحكامٌ وعقائدُ وآدابٌ لا يمكن الاختلافُ حولها، لكن هناك أيضا من الفضلاء من يعاندُ ويخالف ويُعارض، وسيظل كذلك، لأنه، ببساطة، لا يريد أن يُشارك في شيء له صلةٌ بالدين، كيفما كان هذا الدينُ، ولا جرأةَ له ليعلنَ أنه “لاديني” يرفض عقيدة الأغلبية.


وفي اعتقادي أنه ليس من المروءة والفضل في شيء أن يدّعيَ مدّع أنه مسلم، ثم هو في الوقت نفسه يرفض الاحتكامَ إلى الإسلام، والمشاركةَ في نقاش على قاعدة الإسلام، بل يُنكر ما هو معلوم من هذا الإسلام بالضرورة.


ليس من المروءة والفضل في شيء أن يزعم زاعمٌ أنه مسلم، ثم هو في الوقت نفسه يعمل بكل الوسائل للمراوغة وتجنّب مواجهة الأسئلة الواضحة في شأنِ إسلامِه.


فلهذا وجدنا الأستاذَ ياسينا يحضّ هؤلاء الفضلاءَ الديمقراطيين على أن يكونوا صرحاءَ مع الناس ومع أنفسهم، ويعبروا عن رفضهم وأسباب هذا الرفضِ بلا تعميّة ولا روَغَان.


وأعتقد أن كثيرا من الغموض والضباب سينجلي حينما سيكون عند الملحد، مثلا، الشجاعةُ ليصرّح أمام الملأ بأنه ملحد، وأنه لن يدخلَ في ميثاق يقوم على أرضيّة الإسلام.


وكذلك سيكون من الوضوح المطلوب أن يصرّح اللائكيّ أو اللادينيُّ، أيضا، أنه يرفض ربطَ الدين بالسياسة، وأن الدينَ، في تصوره هو، مسألةٌ شخصيةٌ لا ينبغي إثارتُها في موضوعات تخصُّ الشأنَ العام.


بل من حقّ هؤلاء الذين ينافسون الإسلاميين على قيادة جمهور الشعب المسلم أن يَعرضوا مآخذَهم على الإسلاميين، ويُبيّنوا للناس مَكمَنَ قوةِ هذه المآخذ، ثم يبقى للناس، كلِّ الناس، بعد نقاشات صريحة، وحوارات في صميم الموضوع، وعروض ودفاعات تشمل مختلف الأفكار والآراء والاجتهادات، أن يحسموا ويختاروا ويُقرّروا.


الميثاقُ و”الضرورةُ السياسية”


لا تخلو السياسةُ من ضرورات، بل قد يَظهرُ في كثير من الأحيان وكأنّ الضروراتِ هي الأصلُ في العمل السياسي، وذلك أنها(أي الضرورات) لا تكاد تنفكّ عن الاعتبارات التي على السياسيين استحضارُها وهم يخوضون غمارَ الكرّ والفرّ السيّاسيَيْن.


الميثاقُ الإسلامي، في الأصل المنهاجي، كما تعرضه كتاباتُ مرشد الجماعة، إنما هو مبادرةٌ سياسية تأتي تتويجا لانتصار القومة الإسلامية.


والسؤالُ الذي يفرض نفسَه هنا هو: أين نحن اليومَ من القومة الإسلامية المنتظرة؟


لقد كتبتُ في إحدى مقالاتي السابقة أن طريق القومة الإسلامية، كما نظّر لها الأستاذُ ياسين، مسدودٌ بسبب القمع المخزني الخانق، من بين أسباب أخرى ليس المجالُ هنا للتفصيل فيها. ثم إن منهاجَ الجماعة لم يعْرفْ في يوم من الأيام طريقَ التطبيق على الوجه الطبيعي المطلوب.


وقد جعل مرشدُ الجماعة، وهو واضعُ منهاجها، تطبيقَ المنهاج ممكنا في حالة من حالتين، إما أن تتبنّى الدولةُ نفسُها المشروعَ الإسلامي، وتسِيرَ بتنفيذه والدفاعِ عنه إلى النهاية، وإما أن ترفعَ عن الإسلاميين يدَ الظلم والمنع والحصار، وتسمحَ لهم، كغيرهم من التنظيمات والتيارات والإديولوجيات، بحرية التعبير والتنظيم من غير قيود أو شروط تعرقلُ السير، وتحولُ دون بلوغ الأهداف المنشودة.


وإن النتيجةَ المترتّبَةَ على تعذّر تطبيق المنهاجِ أن القومةَ، التي حدّدها هذا المنهاجُ هدفا سياسيا للزحف الجماهيري بقيادة الطليعة المجاهدة، لم تخرجْ من دائرة النظريّة المكتوبة، وما تزال معلقةً، إلى حين، بسبب غياب شروط التنفيذ.


وأريد أن أشير هنا إلى أن كثيرا من الناس، ومنهم أعضاء في جماعة العدل والإحسان لهم مكانةٌ بارزةٌ في التنظيم، يخلطون في هذه الأيام، التي تعرف فورة احتجاجات وانتفاضات واعتراضات على أنظمة الحكم الاستبدادية الجاثمة على الشعوب العربية، وخاصة بعد نجاح الثورتين الشعبيتين العظيمتين في تونس، أولا، ثم في مصر ثانيا- قلت كثيرٌ من الناس في هذه الأيام يخلطون بين “القومة”، بصفاتها المميزة التي بسطها الأستاذُ ياسين في كتاباته وبين “الثورة”، بل يذهب بعضهم، وهم من جماعة العدل والإحسان، إلى استعمال “القومة” في وصف ما جرى في تونس ومصر.


يُراجعُ، على سبيل المثال، ما كتبه الأستاذُ ياسين عن القومة ومميزاتها والفرقِ بينها وبين “الثورة” في فقرة “القومة الإسلامية” في كتاب (المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا)(ص16 من الطبعة3، 1994)، وفي فقرة “قومة، لا ثورة” من الفصل السادس في كتاب (العدل)(ص261 من ط1، 2000)، وفي كتاب (رجال القومة والإصلاح)(ط1، 2001)، وخاصة في الفصل الأول الذي يتحدث عن “القومة ومشروعيتها”.


وهذا الخلطُ، في رأيي، مردُّه إلى الحماسة الزائدة، التي باتت تطبعُ كثيرا من خطابات وسلوكات الحركات المعارضة بعد النجاح الباهر الذي حققه الشعبان التونسي والمصري. بل من هؤلاء المتحمّسين من يذهب في تفسير هذه الحركات الاحتجاجية وهذه الانتفاضات الشعبية بأنها تجري على صورة القومة الإسلامية الموصوفة في المنهاج النبوي. وهذا كلام حماسي مبالغٌ فيه، إن لم أقل إنه استغلالٌ لوضع جار من أجل إثبات مصداقيّة نظرية مكتوبة.


وفي رأيي أن القومةَ الإسلامية لا يعيبها أنها مُعلَّقَة ما دامت شروطُها غيرَ متوافرة، وإنما العيبُ أن نسميَ انتفاضاتٍ شعبيةً انتهت إلى إسقاط أنظمة دكتاتورية باسم “القومة”، مع أن هذه الانتفاضات لا تستجيب-إذا استثنينا النتيجةَ التي حققتها- في تكوّنها وطبيعتها وقيادتها وشعبيتها وشعاراتها، لشيء مما هو مذكور في مميزات القومة عند الأستاذ ياسين.


بل أكثرُ من هذا وأوضحُ أن من مميزات القومة في المنهاج النبوي أنها إسلامية، وأنها زحف منظَّم له قيادةٌ وطليعة ونواةٌ صلبة، هي جماعة المسلمين، وقاعدةٌ شعبية واعية ومعبَّأة.


ثم ماذا يفيد هذا الإصرارُ على التميّز اللفظي الذي لا يقدّم ولا يؤخّر، ولا يغير من الواقع شيئا. وأحسنُ من هذا الخطاب “الأناني”، في اعتقادي، ومن أجل التواصل والتفاهم مع الجماهير العريضة، أن نُحافظ على استعمال المفردات الشائعة المعروفة. فالناس جميعا يفهمون حينما نصف بأن ما وقع في تونس ومصر هو ثورة، لكن بعضَهم، إن لم نقل أكثرهم، قد لا يفهمون جيدا حينما نصف لهم ما وقع في البلدين الشقيقين بأنه قومة.


وأخيرا، فإن الذين يفضلون أن يُسمُّوا ما وقع في تونس ومصر “قومة” يُسيئون، من حيث لا يشعرون، إلى هذا الاسم بخصائصه المنهاجية، ومرجعيته الإسلامية، تربيةً وتنظيما وزحفا، بل ويُعرّضون الفكرَ المنهاجي برمّته إلى أن يصبح شيئا مُباحا نتصرف فيه، نأخذُ منه ونرد، ونؤول ونفسر، ونُظهر ونُخفي، ونُزيّن ونُقبّح، بحسب ما تجري به الرياحُ السياسية في هذا البلد أو ذاك، وبحسب الأهواء والحماسة الزائدة عن الحدّ، التي تُصاحب النفوسَ إبان الانتفاضات والثورات التي تَقلِب الموازينَ، وتغير الحسابات، وتُحيي الآمال وتفتح الآفاق.


باختصار، “القومة” أُكْلٌ تُؤْتيه شجرةٌ حيّة لها خصائصُها ومكوناتُها اللازمة لنموها وتفتّحِها وعطائِها. ولا سبيلَ إلى هذه الثمرة، بحجمها ولونها ومذاقها ومنفعتها الطبيعية وفوائدها الصحية، إن تعطّلت، كلِّيا أو جزئيا، وظائفُ الشجرة الحيوية.


وأرجع إلى السياق الذي كنت فيه قبل هذا الاستطراد.


من “القومة” إلى “ميثاق الفضول”


أقتبس عنوان هذه الفقرة من عنوان فقرة في مقالة لي سابقة. وهو عنوان صريح بأن ما أسميه “ميثاق الفُضول” أصبح، تحت ضغط الضرورية السياسية، بديلا عن “الميثاق الإسلامي”، الذي يقترحه الإسلاميون الغالبون غداة نجاح القومة الإسلامية، كما هو مُبيَّنٌ في “الأصل المنهاجي”.


وأقصد بالضرورة السياسية واقعَ موازين القوى، وجميعَ القيود والعوامل والمعطيات، التي تُعرقل سير تنفيذ المشروع الأصلي، بصورة من الصور، سواء أكانت العرقلةُ كلية أم جزئية. وهذه العرقلةُ، مهما كانت درجتُها، تفرض البحثَ عن حلّ يناسب الوضعَ القائم، وعن طريق ثانوي سالك، إلى حدّ ما، يحافظ على كيان الجماعة قائما ومتماسكا وصامدا في وجه ضربات الخصوم والأعداء التي لا تتوقف، وإن كان هذا الاختيارُ، الذي فرضته الضرورةُ، مخالفا، في بعض جوانبه، لما هو مسطر في المنهاج السياسي الأصلي.


في الأصل المنهاجي، زمانُ الميثاق بعدَ انتصار القومة الإسلامية، أما ميثاق الفضول فهو مقترحٌ والحكمُ الجبري قائمٌ صائلٌ جائرٌ ظالمٌ تائهٌ بما يظهرُ له أنه انتصارٌ وتمكُّن وهيمنة راسخة.


في الأصل المنهاجي، الدعوةُ إلى الميثاق صادرةٌ من موقع قوةٍ وغلبة، أما ميثاق الفضول، فمن موقع الاستضعاف والمظلومية والمغلوبية.


في الأصل المنهاجي، الميثاقُ مقترحٌ تُظلُّه القومةُ المنتصرة، ويُزكيه ويحتضنُه الواقعُ الجديد، الذي يفتح الآفاقَ، ويوسع دائرةَ الآمال، ويعِدُ بخيرٍ عميم. أما ميثاقُ الفضول، فهو دعوةٌ من الجماعة لا تكاد تجد لها صدىً عند النخبة السياسية، السائرةِ في ركاب النظام، أو المنخرطة في جبهة المعارضة.


في الأصل المنهاجي، الفضلاءُ المنافِسون مدعوّون للدخول في ميثاق جماعة المسلمين بشرط القومة المنتصرة، وهو المرجعيةُ الإسلامية. أما ميثاق الفضول، الذي تدعو له الجماعةُ اليومَ، ومن موقع الضرورة السياسية، فإنه يُسقط شرطَ المرجعية الإسلامية، وهو ما يعني انفتاحَه على جميع المرجعيّات، بما فيها المرجعيات اللادينية بكل تياراتها.


“ميثاقُ الفُضول” اليوم هو دعوةٌ إلى ميثاق بمضمون واحد مُستَنْبَط من مُتعَدِّدٍ يشمل المؤمنَ وغير المؤمن، والإسلاميّ واللائكيّ(العلماني)، والمعتدل والمتطرف، والليبرالي والاشتراكي، ، والسلفي والصوفي، والماركسي الجذري، واليساري الديمقراطي، وغيرَ هؤلاء من المشارب والاجتهادات والألوان الفكرية والسياسية، التي تمتاز بها الساحة المغربية.


وقد أصبحنا نقرأ، في هذه الأيام، بياناتٍ صادرةً عن جهات قيادية في الجماعة، تُصرح بكل وضوح أن الجماعة ليس عندها مشكلٌ مع المرجعيات الأخرى، والمهم هو ما يجمعُ لا ما يفرق. وهذا يعني أنه إن كان هناك في المستقبل ميثاقٌ بين الجماعة وغيرها من الأطراف السياسية، فإنه بالقطع لن يكون جاريا على النمط الذي اقترحه الأستاذ ياسين في كتاب “العدل”، والذي أشرت إليه في المقالة السابقة.


دعوة “الميثاق” بين الواقع والأماني


الدعوةُ إلى الميثاق اليومَ هي دعوةٌ من طرف واحد، هو جماعةُ العدل والإحسان، لا نجد لها، لحدّ الآن، أيَّ نوع من الاستجابة لدى الأطراف المَعنيّة.


ورأيي في هذا الموضوع، وأنا أعرف أنه رأيٌ لا يُعجب كثيرا من الناس، وخاصة أولئك الذين يطمئنون إلى الثبات والتكرار والأحلام، وينزعجون من المراجعة والنقد والتغيير-


رأيي أن الدعوة إلى “ميثاق”، كيفما كان نعتُ هذا الميثاق، لا يمكن أن ترقى لتصبح “إنجازا سياسيا” حقيقيا ما دامت دعوةً قائمةً من طرف واحد لا تكاد تجد لها مُجيباً.


هذه الدعوةُ التي لا تجد لها صدى لدى الآخر، هي، عندي، في حكم “الفكرة”، أو “الأمنية”، أو “النداء”، أو ما تشاء من الرّغبات التي يُمكن أن يحلم بها كثيرٌ من الناس، ما دامت لم تتمثل “كيانا واقعيا” له نَسبٌ بما هو معيش ومُعطى، وليس بما هو مطوي في الأماني والأحلام.


خذْ، مثلا، هؤلاء “الفضلاء الديمقراطيين” “أصحاب الإرادات الخيرة”، الذين ما فتئت الجماعةُ تناديهم من أجل “ميثاق” يُخلّصنا من الجور والاستبداد، من همْ في أرض الواقع؟ من همْ بلغة السياسة والأرقام والتحالفات؟ من هم بالأسماء والصفات والحيثيات؟ من هم بالذات والحجم والمكانة؟


قد يكون لفكرة الميثاق شيءٌ من الوزن السياسي- أقول شيء من الوزن- إن كان يمكن، مثلا، تصريفُها عمليا، ولو جزئيا، وتجلّيها حيّة، ولو في صورة خليّة جنينية تمثل هؤلاء الفضلاءَ المُرجَوْن لغد الميثاق. أما والحالُ على ما نرى من عدم وجود ولو رائحة لاستجابة إيجابية، وطغيانِ سكوتٍ مطلق لدى الطبقة السياسية بكل مشاربها وألوانها، فإن الاستمرار والإلحاحَ، في كل المناسبات، على أن فكرة “الميثاق”، التي تطرحها الجماعة، هي المُخلّص المنتَظَرُ، والمخرج الوحيد من أزماتنا، هو نوع من الإلحاح على “تكرار” ليس يأتي بطائل، لأن سنواتٍ ذواتِ العددِ كافيةٌ لاختبار مصداقية الأفكار وجدّية المقترحات ورُجحان البرامج والمشروعات.


عندما يُسأل اليوم قياديون في الجماعة عن حجم ومستوى ونوعيّة الاستجابة لدى الآخر لدعوتهم، فإنهم يُجيبون بأجوبة يحاولون أن يُضفوا عليها طابعَ الإيجابية، لكنها، في الحقيقة، أجوبةٌ ناطقة بأن الآخَر، بكل فصائله وتياراته، غيرُ معنيّ بنداء الجماعة، وذلك أنْ لا أحدَ، من الجماعة أو من غيرها، يمكنُ أن يذكر رقما، أو اسما، أو حزبا، أو جمعية، أو تنظيما، أو ما شابَه هذا من المعطيات المادية الملموسة، التي يمكن أن تؤكد أن هناك بالفعل استجابةً من نوع ما، وأن هناك تواصلا، في مستوى ما، مع صوت الجماعة. بل، بالعكس، قرأنا تصريحات من بعض الجهات السياسية تعبر بكل وضوح أنها لا ترغب في الارتباط بجماعة العدل والإحسان بأي نوع من أنواع الروابط.


لماذا لا يستجيب الناس لدعوة الداعي؟


لماذا لا تجد الجماعة الأذنَ الصاغية والإرادةَ المستجيبة؟


عند الجماعة، السببُ وراء عدم الاستجابة لفكرة الميثاق المطروحة كامن دائما عند الآخر، أما فكرةُ الميثاق في حدّ ذاتها، فهي صحيحة سياسيا مائة في المائة. أقول سياسيا، أمّا مبدئيا ونظريا، فلن تكون الفكرةُ إلا صحيحة ومقبولة عند جميع العقلاء، لأنها دعوة إلى التشاور والتعاون والتشارك، وهي أهداف جميلة ونبيلة ما تزال تطلبها الفطرُ السلمية والعقول الراجحة، في كل زمان ومكان.


هذا ما يفترضه مسؤولو الجماعة دائما. العلةُ في الآخر. السببُ هو الآخر. الفشلُ هو الآخر. أما نحن، فليس عندنا إلا الصحةُ والنجاح.


وههنا أيضا خللٌ ينبغي توضيحُه في كلمة قصيرة.


الأصلُ أن جميع المقترحات والمبادرات السياسية تحتمل الصحةَ وتحتمل عكسها. وكان ينبغي، من باب وجوبِ النقد الذاتي، أن تسأل الجماعةُ نفسَها بكل صدق وصراحة: لماذا لم نتقدم خطوةً واحدةً بعد كل هذه السنوات؟ لقد افترضنا دائما أن الآخر هو السبب، فلنُجرّبْ اليوم، ولْنفْترضْ أن العلّة كامنةٌ في الفكرة ذاتها، في مبادرة الميثاق نفسها. لِنفترضْ، ولو مرة، أن العلة فينا، ولنرَ النتيجة.


لماذا لا تجرؤ الجماعةُ على مثل هذا التجريب؟ لماذا توجه الاتهامَ دائما للآخر، مع أن الذاتَ، وخاصةً في أمر سياسي اجتهادي، هي مَظِنَّة الخطأ والوهم وسوءِ الفهم والتقدير؟


وأخيرا، لا ننسى أن الأجواء “الثورية” العربية التي أنجبت “حركة 20 فبراير” المغربيةَ، قد غيّرت كثيرا من المعطيات، وفَرَضت معادلات جديدة، وحَرّكت السّواكنَ، وفتحت طريقَ المراجعة والتجديد والإبداع، ومن ثم، فإنه، في اعتقادي، لم يعد هناك مكانٌ لـ”ميثاق الغالب”، ولا لميثاقٍ يُدعَى له من جهة واحدة. وإن كان لا بد من ميثاقٍ في هذه المرحلة، فإنه سيكون ميثاقا تتداعى له أطرافٌ متعددةٌ لتنسيق جهودها وأفكارها، وتحديد سقف مطالبها وأهدافها، وضبط برنامج أنشطتها وسير نضالها.


وقد كتبتُ في مقالة سابقة أن حركة 20 فبراير يمكن أن تكون بمثابة الورشة الميدانية لبلورة مبادئ الميثاق المنشود، وإنضاج بنوده وتحديد آفاقه، طبعا إن هي صمَدتْ في وجه الضربات التي تروم القضاءَ عليها، وتخطّت الصعاب والمعوقات، وصفت مشاربُ مكوّناتها وداعميها ومناصريها.


وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالين.


majdoub-abdelali.maktoobblog.com

‫تعليقات الزوار

1
  • Abdelali
    الأحد 12 يونيو 2011 - 19:56

    La confrérie de Cheik Yassine et sa fille Nadia, a un problème avec le peuple, et non pas seulement avec Almakhzen. C’est le peuple qui la rejette. Monsieur, si tut le monde hésite jusqu’à maintenant à répondre à votre main tendue, c’est qu’on ne vous fait pas confiance, et pour cause. On sent dans le fait que vous tourniez votre veste une manoeuvre politique, qui a comme but de maintenir operationnel le front laico-sans-foi-ni-loi-salafiyo-communiste-adliste. C’est juste pour empêcher ce front fragile de s’auto-détruire. Front fragile, puisqu’il est fait de pièces idéologiques hétéroclites, dont l’assemblage dépasse la raison. Voilà les adlistes veulent apparaître aujourd’hui démocrates, prêts à accepter la pluralité du peuple marocain. Ils savent d’avance que ce front ne tiendra pas debout plus longtemps. Une course contre la montre adliste avant que tout ne s’écroule. Monsieur Abdelali, il y a aujourd’hui 9mars, et nous invitons à rejoindre ce front 9marsiste, si vous souhaitez vraiment bâtir un Maroc nouveau, où le pauvre se verra pris en considération, en lui remettant sa dignité et sa liberté. Dites à votre organisation que le peuple réclame la même chose que vous, et que la seule différence porte sur deux choses : la monarchie est notre passé et notre avenir/Et la liberté. Nous voulons une Constitution pour tous, qui défend tout le monde, croyant et non croyant. A suivre

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 1

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين