"ساحة النجارين" .. كل الطرق تؤدي إلى مفخرة المدينة القديمة بفاس

"ساحة النجارين" .. كل الطرق تؤدي إلى مفخرة المدينة القديمة بفاس
صورة: أرشيف
الإثنين 21 مارس 2022 - 05:00

كل الطرق تؤدي إليها وتتفرع عنها. كرحم عميق تستقبل الوافدين من كل فجاج المدينة ومن خارجها وتنتزع كبار الوافدين من البقاع البعيدة ثم تنثرهم مثل درر أفرادا وجماعات عبر أذرعها الممتدة إلى البعيد، الملتوية المفضية إلى أسواق ترشح ألوانا وروائح وسلعا وحاجات يومية. إنها فضاء يتوسط صدر المدينة القديمة يتربع في قلب عمرانها، في نواتها البكر، في نشأتها الأولى.

يتكاثف من حولها زحام أزقة ثرة بفيض تنوع البضائع المختلفة المعروضة أمام المارة، الأهالي والزوار. سلع كمالية وضرورية، حبلى بأنواعها الدكاكين والحوانيت والأقبية. تجسد شرايين الحركة الدائبة المعبرة عن ذوبان سير المدينة. تسيجها شبكة من الممرات ويضمها عناق مسالك ودروب تتشابك فيها الثنايا وتتداخل مثل تعرجات خطوط الدماغ أو خريطة سرية مربكة تضاعف التيه في هذه المتاهة المشتهاة. سبل تفضي غربا من الساحة إلى منطلقات العابرين إلى الطالعتين الكبرى والصغرى، حيث يواجههم عند مستهل عقبة هذه الأخيرة دكان صغير ذو أبواب وواجهة خشبية مزخرفة لا ثانية لها في كل المدينة، يغلب عليها اللون الأخضر. دكان وإن كان لا يفتح أبوابه إلا سبعة أيام في السنة، تحديدا في عيد المولد النبوي، فهو يفتح تساؤلات واستفسارات حول لغزه المحير. تقول الرواية، في هذا الدكان شوهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم في زمن غير محدد، حلما كان ذلك أم يقظة؟ سؤال لا جواب عنه. فحمل منذ ذلك الزمن اسم “حانوت النبي” وتحول إلى إحدى مقدسات المدينة الثانوية، حيث تشرع أبوابه في ذلك العيد ليقرأ فيه القرآن وتتلى الأذكار والأمداح.

يمينا من الدكان ينحدر زقاق قصير يمر تحت صابة عتمة شيئا ما، اسمه الدلالين، يصب في سوق يعج بالبضائع الجلدية في شتى الألوان والأشكال. سوق عين علو. سوق يحمل اسم عين ماء أنيط ذكرها بقاطع الطريق علو، الذي أرهب الناس وأخافهم في هذا مكان إلى حد جعلهم يتحاشون حتى الاقتراب من هذه العين والمنطلقة كلها، إلى أن قضى عليه مؤسس المدينة مولاي ادريس وأراح البلاد والعباد منه. صعودا مع عقبة الغرابليين يوجد يمينا منها فرع من فروع زاوية سيدي عبد القادر الجيلاني (1078ـ 1166 م) المنتشرة في كثير من بلدان العالم الإسلامي، حيث قبر أحد أحفاده الذين لجؤوا إلى فاس بعد سقوط غرناطة (1492) ومنها انطلقوا إلى الغرب والساحل الإفريقي ينشرون طريقة جدهم دفين بغداد. تعد الطريقة القادرية من أكثر الطرق الصوفية انتشارا في البلاد الإسلامية تحت عدة أسماء مثل القادرية الجيلانية والقادرية الشادلية والقادرية العركية والقادرية البودشيشية… إلخ. لقد كان عبد القادر الجيلاني أو الكيلاني أو كما يسمى في الموروث الشعبي المغاربي، الجيلالي بوعلام، ذا مواقف شجاعة مارس من خلالها انتقادات خص بها حكام عصره، منها قوله: “صارت الملوك لكثير من الخلق آلهة. قد صارت الدنيا والغنى والعافية والحول والقوة آلهة، ويحكم جعلتم الفرع أصلاً، المرزوق رازقاً، والمملوك مالكاً، الفقير غنياً، العاجز قويا والميت حيا.. إذا عظَّمت جبابرة الدنيا وفراعنتها وملوكها وأغنياءها ونسيت الله عز وجل ولم تعظِّمه، فحكمك حكم من عبد الأصنام، تصيّر مَنْ عظّمتَ صنمَك،” كما أن مدرسته أعدت جيلا من العلماء، نساء ورجالا، وقادة سياسيين، أشهرهم صلاح الدين الأيوبي (حكم من 1174 إلى 1193).

عن سوق عين علو هذا، يتفرع نهج عين الخيل، طريق صغير لا أهمية له تذكر لولا ذلك الجامع الذي يحمل اسم النهج نفسه “جامع عين الخيل” أو “جامع الأزهر” كما ورد في كتاب سلوة الأنفاس لمحمد ابن جعفر الكتاني. لهذا المسجد صومعة ذات طراز بنيان غريب عن باقي صوامع مساجد فاس، كما أنها واحدة من الصوامع الغريبة عن هندسة صوامع المغرب، إلى جانب صومعة جامع القصبة في طنجة وصومعة المسجد الأعظم في مدينة شفشاون أو الصومعة المستديرة لمسجد السنتيسي بمدينة مولاي ادريس زرهون. فهذا الجامع مكون من طابقين وكل طابق منهما هو مسجد مستقل بذاته وبمرافقه. حتى إنه أصبح أحد الغرائب المتداولة في ألغاز ساكنة فاس، فيقال: “أين يوجد جامع فوق جامع؟”. لكن هذا الجامع اشتهر أكثر كونه كان مقام الفيلسوف والشاعر الصوفي الأندلسي محيي الدين ابن عربي (1165 ـ 1240) أثناء إقامته في فاس وفيه بدأ تأليف أحد أهم كتبه “الفتوحات المكية”. من أقواله: “الحُكْم نتيجة الحِكمة، والعلم نتيجة المعرفة، فمن لا حكمة له لا حُكْمَ له، ومن لا معرفة له لا علم له”.

التواءات تزج بالوافدين شرق ساحة النجارين في نهج دروب سيدي موسى التي يفتتحها حمامه الشهير بحمام مولاي ادريس، هذا الحمام الذي كان في إيجار أحد أكبر خزانات نصوص أدب الملحون الحاج محمد الكيسي. قبالته مباشرة عارضة خشبية تعلن عن أحد المداخل حرم زاوية مولاي ادريس الخمسة من الجهة الغربية. مدخل آخر شرق الساحة يلج سوق الفخارين أو القشاشين (الأواني المنزلية) الذي تتفرع عنه أسواق تتفاضل بين الطول والقصر والضيق والشساعة مثل سوق الحنة أو سيدي فرج، حيث كان المارستان الشهير الذي استمر في إيواء مرضى الاختلالات النفسية من سنة 1286 إلى سنة 1944 م، أو سوق السراجين لصناعة سروج الفرسان بعد نقله من أمام بوابة بوجلود إلى هنا، أو سوق الجوايين، الذي كان لصناعة أغماد السيوف والخناجر. وفي نهايته يبدأ أطول أسواق المدينة، سوق العطارين من جزئه الغربي، حيث التوابل والعطور وما له علاقة بالمطبخ المغربي وزينة النساء. إنه السوق الوحيد الذي ليس له سقاية بينما نجدها في كل سوق من الأسواق المتفرعة عنه كسوق السلهام وسوق الحائك وسوق الحنبل وسوق المجادليين. قبل بداية هذا السوق من الجهة الغربية وإلى نهاية الخمسينات من القرن الماضي كانت تباع هنا الزهور والورود ونباتات الحدائق، أما اليوم فهو خليط من المبيعات.

تحيط بساحة النجارين من كل جوانبها دروب وأزقة عرضها متر أو يزيد قليلا كدرب مينة، الذي يبدو في الزاوية اليسرى للفندق ككوة جدار تفضي إلى العدم. ونظرا لضيق الأزقة والشوارع، فما أن يلاقيك بغل أو حمار محمل بثقل البضائع المحمولة إلى هنا أو هناك، يحثه خطاه صاحبه بصياح “بلاك، اعنداك”. (أخل الطريق، انتبه)، إلا ويصبح لزاما عليك الانحشار وبسرعة في أي فجوة تجدها حيالك سيان أكانت دكانا أو قبوا أو مدخل دار، فلا الدابة ولا صاحبها سينتبه لوجودك، لأنه منهمك في الحفاظ على توازن حمولته. غير أن ما اشتهرت به الساحة هو فندقها وسقايتها اللذان يحمل كل منهما اسم النجارين. فعلى الرغم من انتشار السقايات في كل أحياء فاس والمغرب قاطبة، كعنصر ضروري من عناصر الحياة اليومية في الأحياء والأسواق، فلا سقاية في المغرب كله كانت في الماضي تضاهي جمال ورونق هذه التحفة المعمارية الرائعة التي تتصدر الساحة وتجسد إبداع فن الهندسة المغربي الأندلسي.

إنها تناسق من الفسيفساء بهيجة الألوان معقدة التصفيف، المجسدة لجريان الشموس والكواكب. فسيفساء تكسو ثلثي السقاية السفليين، محفوفة بقوس تزينه النمنقات الجبسية الباذخة، وسقف من خشب مُحبّر برسومات هندسية بارعة يزيد جزها العلوي بهاء، وسطح مائل مصفف بقرميد أخضر كتاج يمنح السقاية رونقا وجمالا ويقيها آفة الحر وسيل المطر. لقد أنشئت السقاية مقترنة بإنشاء الفندق حتى تروي عطش الوافدين على الفندق ودوابهم والمارين بها راجلين وركبانا. يعود إنشاء السقاية والفندق إلى القرن الثامن عشر.

هكذا نجد للسقاية والفندق، في كل الوثائق الفوتوغرافية والمصورات الفنية القديمة منها والحديثة لساحة النجارين، حضورا متلازما. فيتم الربط بينهما كوحدة معمارية يقرن وجودها بوجود الآخر. مع مرور الزمن ونظرا لموقع السقاية القريب جدا من الحرم الإدريسي، غدى ماؤها يحظى تقريبا بالقدسية نفسها التي تحظى بها مياه سقايات وعيون الزاوية عند المؤمنين لبركة هذه المياه. إنها حلية الساحة، زينتها التي تضفي عليها نسق منظر أسطوريا، نفحة من أريج تاريخ صور خوالي لمدينة تأرجحت عبر العصور بين الصعود والانهيار. تتوج هامة مشهد الساحة الطالع من بين طيات سجلات تعاقب الزمن وصفحات دورة الأيام.

على جهة السقاية اليسرى دكان صغير، مغلق من عشرات السنين لا يثير كثيرا من الانتباه. دكان له تاريخ، عبارة عن فتحة غائرة في ظهر السقاية مباشرة ومرتفع عن الأرض بحوالي متر. بأبواب قديمة الشكل تغلق أفقيا لا عموديا تسمى “الغلاقات”. التي كانت إلى زمن مضى هي القاعدة، أما اليوم فنادرا ما نلاقيها مستعملة في دكاكين المدينة، هكذا بقي هذا الدكان استثناء. كان هذا الدكان أول بريد المدينة قبل دخول الاستعمار الفرنسي سنة 1912. من هنا كانت تبعث الطرود والرسائل بواسطة رجال يسمون “الرقاصة” (سعاة البريد)، أناس بدويون، فقراء يحملون هذه الإرساليات إلى الدواوير والقرى والمدن القاصية مشيا على الأقدام مقابل أجر زهيد، وخاصة إلى طنجة والعرائش، اللتين كان ميناؤهما بوابة تجار فاس الوحيدة إلى العالم الخارجي قبل إنشاء أحواض ميناء الدار البيضاء سنة 1913 وبداية هجرة كبار تجار فاس إليها وبناء نموذج لفاس صغيرة عصرية (حي الحبوس).

على الجهة اليمنى من السقاية وعبر مهبط من بضع درجات تنطلق من الساحة ورشة كبيرة، مجمع حرفة النجارة. زقاق طويل نسبيا، مستقيم مستطيل الشكل مكون من عدة أقبية من غير أبواب وسقوف عالية معدة لاستقبال فروض الخشب الطويلة. فمن الصعب التعرف على الفواصل التي تفصل هذه الأقبية عن بعضها. ألواح وصناديق وأثاث وقطع خشبية جاهزة وغير جاهزة هنا وهناك، توحي بفوضى متداخلة، يتساءل معها الداخل إلى هذا الزقاق، إلى أي ورشة من الورش تنتمي هذه المصنوعات الخشبية وفي ملك من هي؟ في هذا الفضاء يتعايش الموت والحياة، المأتم والفرح. هنا تصنع “عمارية” (هودج مرصع بزينة ذهبية أو فضية) لحفلات الأعراس أو الختان أو الازدياد، وهناك يجهز تابوت لدفن امرأة أو طفل. هنا ترصع زخرفات وزينة لبيت فاخر وهناك يسقل نعش الأموات. فعلى الرغم من أن الساحة والسقاية والفندق تدين بأسمائها إلى هذا الزقاق “النجارين”، فلا علاقة بينه وبينها لا مكانية مباشرة ولا تجارية. فزقاق الورش هذا له خصوصيته ونظامه المتميز عنها وكذا عن باقي أسواق المدينة. له وقت عمل موحد. فكل هذا المجمع من الورش تحكمه بوابتان فقط، تفتحان صباحا وتغلقان قبيل شمس العشي. واحدة في الناحية الغربية والأخرى من جهته الشرقية المؤدية إلى سوق البلاجين، حيث كانت صناعة إقفال ومزاليج الأبواب. تُظل سماء المجمع شبكة خشبية تنتشر فوقها دالية عنب تتدلى منها عناقيدها. كانت هذه النبتة الصبورة للحر والبرد، المتكيفة مع كل المناخات والظروف الجوية، في زمن مضى زينة الأسواق توزع الظلال والخضرة في كثير من الأحياء. الآن شجرة يتيمة لا توجد إلا في هذا الزقاق، وقد غرست في مرحلة ترميم ورش النجارين، لقد تم اجتثاثها بعد زمن قليل من الاستقلال من كل أزقة وشوارع المدينة.

لساحة النجارين وجوه متعددة، حرفية وعمرانية وأيضا ثقافية. فقد عرفت الساحة دكاكين للكتب المستعملة، يقصدها الطلبة والقراء الذين لا يقدرون على شراء الجديد منها، وكان أشهرها دكان الحلوي. كان عبارة عن ركام كتب وطبقات أوراق ومجلات مبعثرة. يجلس الحلوي أمامها ممسكا بكتاب يقرأه. كان قارئا جيدا، يمكن القول لقد قرأ كل الكتب التي بين يديه. فما إن يسأله زبون عن كتاب ما حتى يخرجه له من بين الركام بسهولة وكأنه يخرج مفاتيح دكانه. وإذا لم يكن الكتاب في حوزته، يسرد عليه عددا من عناوين الكتب المماثلة أو القريبة مما يبحث عنه، سواء تعلق الأمر بالفلسفة أو بالأدب أو بالاقتصاد أو السياسة أو بعلوم غيرها. لم يكن الحلوي ماركسيا ولا لينينيا لكنه كان على ثقافة ودراية عالية بالكتب اليسارية، ولهذا كان يقصده بالذات الطلبة ذوو هذا التوجه. لقد كان الحلوي قبلة القراء الفقراء. لاحقا رحل عن الساحة وفتح دكانا قريبا من جامعة سيدي محمد بنعبد الله بظهر المهراز وبقيت الساحة يتيمة خالية من علمها الثقافي الحلوي، تجتاحها اليوم دكاكين تعرض بضائع للسياح.

إذا ذكرت فنادق فاس التي بالكاد تخلو منها منطقة من المناطق التجارية والصناعية، سواء في فاس البالي أو في فاس الجديد، والتي تعد بالعشرات، غير أن وجودها في عدوة القرويين أكثر منها في غيرها من أجزاء المدينة نظرا للحركة التجارية والصناعية التي تعرفها هذه العدوة، إلا وذكر الفندق المقابل لباب جامع القرويين بن عمر، ويعرف بفندق التطوانيين، أنشأه المرينيون (1244 ـ 1465)، تزينه زخرفة خشبية لسقف مدخله الرائع ونقوش خرصتي بابه الحديدتين. غير أن فندق النجارين فاقه دقة وجمالا وضخامة، خاصة بعد ترميمه الأخير. فالفنادق تختلف في أحجامها ووظائفها من حي إلى حي ومن موقع إلى آخر. هناك منها ما كان لإيواء الغرباء ودوابهم، وهذه تتميز بشساعة فنائها، على عكس المخصصة للحرف اليدوية أو لتخزين البضائع والسلع، فهي غالبا ما تكون أقل مساحة من الأخرى وكثيرا ما تكون ذات طابق أو طابقين. ومنها ما كانت لمبيت الوافدين على المدينة فقط، فنادق تقليدية ذات وظيفة المبيت فقط مثل الفنادق الحديثة. فقد تعددت وظائف الفنادق فمثلت تجمعات تجارية وحرفية، أغلبها إما ملك للأحباس أو فيه جزء تملكه الأحباس. غير أن أجمل هذه فنادق برمتها هو فندق ساحة النجارين. إنه معلمة الساحة الثانية بعد السقاية؛ فندق فخم، لا يضاهيه في فنه غيره، تم بناؤه على يد الأمين عبد الخالق عديل سنة 1711، الذي ما زالت إلى اليوم داره والزقاق الذي توجد به في حي واد رشاشة تحمل اسم “دار عديل”. هذه الدار التي جعل منها الفرنسيون أول متحف بالمدينة “متحف الفنون المحلية” قبل نقله إلى قصر البطحاء سنة 1915. ثم تحولت الدار لاحقا إلى معهد للموسيقى الأندلسية.

لقد عرف هذا الفندق تقلبات الزمن كباقي مرافق المدينة. فكان في القرن الثامن عشر في فترة السلطان مولاي اسماعيل الذي امتدت حكمه من سنة 1672 إلى سنة 1727م من أهم مراكز المدينة التجارية، ثم أصبح مستودعا هاما للسلطات المخزنية في القرن التاسع عشر على عهد ولاية السلطان مولاي عبد الرحمان (1822 ـ 1859)، ثم طاله إهمال بعد ذلك. وفي القرن العشرين بعد دخول الاستعمار الفرنسي إلى المغرب، رمم جزئيا وتم الإعلان عنه سنة 1916 كمعلمة تاريخية وطنية. وفي القرن العشرين سنة 1940، حولته السلطات الفرنسية إلى مركز للشرطة واستمر مركزا للشرطة الوطنية إلى السبعينات من القرن الماضي. لم يعرف الفندق ازدهاره من جديد إلا مع بداية عملية الترميم التي قام بها الوزير الأول السابق كريم العمراني، والتي شملت الساحة، السقاية، درب مينة وزقاق الدرمامي عن يمين الساحة واستمرت من سنة 1990 إلى سنة 1996. حيث كُسيت جدران كل هذه الأماكن بالخشب المسقول وبارتفاع متر ونصف. كما تم ترميم ورش النجارين عن آخرها. وفي سنة 1998 تم افتتاح الفندق متحفا للخشب انسجاما مع ورش النجارين المجاورة. إنه تجسيد لمنظر فخامة فندق سلطاني، تفشيه واجهته العاتية ببابين ضخمتين كأنها أبواب قصر منيع، يعلوها قوس مزدان بمسحة فنية معمارية صرف مغربية، مزيج من زخارف الفسيفساء والجبس، وسقف تتآلف فيه آلاف القطع الخشبية الرفيعة دقيقة الصنع، أضفت عليه هيبة بوابة ملكية. تنفرج البوابة عن فضاء يموج بلون خشبي زاه وروائح طالعة من ثنايا التحف الخشبية الفنية.

أبواب، مرافع، نوافذ، قطع خشب خام، مشرّبات وجداريات للزينة ومعروضات غيرها متنوعة، تحكي في صمتها وسكونها قصة حضارة عريقة جذورها موغلة في غياهب الزمن. فراش أرضية الفندق رسومات وخطوط من حصى ناعم صفف بفنية ودقة تذكر بمصورات البلاطات الرومانية والإغريقية. تحفها سواري دائرية الشكل جليلة، نصفها السفلي ملبس بالخشب وكأنها فيلق جند حُراس هذه التحفة المنبسطة وقد حمل أعلاها أقواسا بطروز جبسية فاخرة. على جانبي البهو علق ميزانان ضخمان عريقان يعيدان إلى الذاكرة زمنا كان فيه الميزان من ضروريات الفنادق والمجمعات التجارية. حتى يتمكن كل مشتر إذا ارتاب في غش بائعه من أن يزن بضاعته بنفسه حتى يطمئن قلبه. أما طابق الفندق الأول فقد تكاملت فيه زينة شرفات خشبية تدعمها سواري رصعت هاماتها نقوش جبسية متجانسة. وطابقه الثاني منحته الدرابيز والأعمدة التي ترفع أقواسا، والكل من خشب منمق شاهر، صبغة التناسق والانسجام مع من تحته، فبدا وكأنه ينوب على البناية ومكوناتها في مناجاة فرجة الفضاء المنفتحة على السماء ويدين بوجوده وثناء بعث الحياة فيه من جديد وتميزه كمعلمة من معالم المدينة ومفخرتها إلى سوق النجارين.

‫تعليقات الزوار

3
  • فاس زينة المدن
    الإثنين 21 مارس 2022 - 09:09

    فاس الحضارة، فاس العراقة، فاس الاصالة،
    لطالما شغفت بها عند زياراتي في الطفولة، وااااأسفاه على حالها اليوم بعد ما سلط عليها شباط و غيره من الخونة، لترتع فيها الجريمة والدعارة والمخدرات.

    الصناعة التقليدية بها لا تضاهيها اية صناعة من ناحية الجمال، و النزخرفات و كم اتمنى ان ازورها حين ادخل المغرب لاقتني منها،

  • لسان صدق
    الإثنين 21 مارس 2022 - 10:46

    مقال رائع. تشعر معه و كأنك فوق بساط الريح و انت تلقي نظرة جوية مع مرشد سياحي متمكن من المدينة العتيقة ككف يده. و مما لا يعرفه إلا القلة فمصمم سقاية النجارين هو الطيب البياز رحمه الله.

  • شيماء
    الإثنين 21 مارس 2022 - 15:16

    هذا الحي، او هذه الساحة، معلمة لا مثيل لها، بالسقاية هي الأشهر على الإطلاق ،وقد تم اصدارها في طابع بريري منذ السبعينات، قرب الساحة، نشا الشاعر سعد سرحان،وفي سيدي موسى على بعد خمسين مترا من الساحة نشا الشاعر الكبير محمد بنطلعك، اما في عين الخيل المذكورة في المقال في حومة عبد اللطيف الليبي وعبد الهادي بلخياط،ووالد الشاعر الشعبي كان صانع سروج في سوق السراجين الموازي تماما لسوق النجارين، اما ادريس الجاي كاتب المقال فهو رجل مسرح عصامي من الطراز الرفيع،فهو اضافة الى عبد الحي الدويري من رموز جمعية الاقنعة للمسرح التي رفدت الساحة الثقافية باسماء مهمة كالازهر والحاكم والسراج والعمراني والراشدي،،، فسقطا لتلك الايام

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش