جدل الكوني والمحلي في المفاهيم

جدل الكوني والمحلي في المفاهيم
الأربعاء 15 يناير 2014 - 23:22

يعتبر المفكر المغربي سعيد شبار من رواد الدراسات المفاهيمية في الوطن العربي، وآية هذه الصفة، إنتاجاته العلمية التي تتصدى لإشكالية المفهوم في التداول العربي، إذ كتب مبكرا كتابا عنوانه ” المصطلح خيار لغوي وسمة حضارية” كما أنه أصدر مؤلفا يعالج مفهوم النخبة و الإيديولوجيا و الحداثة، مع الإشارة إلى أطروحته في رسالة الدكتوراه “الاجتهاد و التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر”، حيث قارب الكثير من المفاهيم، منها المنتسب إلى المجال الدلالي و التداولي العربي، أو المنتسب إلى التشكيل المعرفي الغربي.

تشغل المسألة المفاهيمية من فكر الأستاذ سعيد شبار أولوية الأولويات، فهو يعتبرها المدخل الرئيس لافتتاح إصلاح الخطاب الفكري العربي، وينظر إليها باعتبارها الشرط الضروري لبناء جسور التواصل الحضاري مع الآخر، وبدون وضوح مفاهيمي، يؤكد أن شعارات الإصلاح و النهضة و الانفتاح، مجرد كلام مرسل في الهواء، يزيد من تعميق الأزمة المفهومية في الوطن العربي.

من هذا المنطلق، ألقى الأستاذ سعيد شبار في الرابع من يناير محاضرة بعنوان ” المفاهيم في التداول الفكري المعاصر”، احتضنته مؤسسة مؤمنون بلاحدود بمدينة الرباط/المغرب، وقد عرض في مداخلته لأهم إشكالية- حسب نظري- تستحق الكثير من البحث و الدراسة وهي إشكالية الكوني و المحلي في المفاهيم.

يؤكد شبار أن المفاهيم تولد محايدة ومشتركة بين جميع الناس، فتأخذ طابع الكونية، باعتبار أن الإنسان مهما اختلفت مرجعيته الدينية أو الثقافية، فهو يشترك مع أخيه الإنسان في المفاهيم قبل أن تأخذ صفة الخصوصية، ولبيان هذا المعنى يمكن أن أذكر تحليلا فريدا للمصطلحي علي القاسمي، حيث يبين أن مفهوم “البقرة” مشترك بين كل الناس، لكن هذا المفهوم يأخذ طابع المحلية بحسب الدين أو الثقافة، ففي الهند البقرة مقدسة، وعند المسلمين مثلا؛ البقرة تذبح !

يهدف شبار من خلال إثارة إشكالية الكوني و المحلي في المفاهيم، إلى بيان أن جسور التواصل الحضاري بين كل الثقافات و الديانات ممكنة، باعتبار أن ما من مفهوم إلا فيه مساحة الكوني، المشترك بين الإنسانية جمعاء، لأن الوجود واحد غير متعدد، و المتعدد هو الثقافة.

هذه الإشكالية، تدفع الباحث إلى بذل مجهود كبير، لغرض بيان مساحات الكوني المشترك في المفهوم، و المحلي فيه، أو بلغة المناطقة تمييز الجواهر عن الأعراض، وهذه المهمة غير سهلة بالنظر إلى العلاقات المضطربة بين أفراد المجال المعرفي الواحد، إذ كل مثقف منهم يريد أن يثبت أن مفهومه المحلي، هو الكوني و الإنساني، الذي ينبغي أن يشكل المرجعية الأساسية.

بالنظر أيضا إلى اضطراب العلاقة بين الشرق و الغرب، هذا الأخير يعتبر نفسه هو المركز الذي يرجع إليه، وهو الذي ينبغي أن تدور في فلكه كل الأطراف، لأنه يرى أن مفاهيمه كونية، لكن الشرق لا يُسلِّم له بذلك، فهو يعتبر أن مفاهيمه هي التي تتصف بالكونية و على الغرب أن يقبلها ويمتثل لها، لكن الغرب ينظر إلى هذه المفاهيم، على أنها محلية النشأة، ترتبط بسياقات زمانية و مكانية محددة.

ينشأ عن هذا التواصل المضطرب، سواء داخل المجال التداولي الواحد، أو بين مجالين تداولين مختلفين، حالة يسميها الأستاذ شبار ” المُصادرة الإقطاعية للمفاهيم” تتبنى فكرة “ملكية المفاهيم”، كل طرف يريد فرض مفاهيمه بأسلوب استبدادي على الآخر، فينشأ عن ذلك ردة فعل، تتسم بحالة من الانغلاق و التعصب، باعتبار أن المستبد في تصدير مفاهيمه، يريد أن يفسد غيره ويشيع الأفكار الهدامة حسب حجج المنغلقين، من كلا الطرفين !

للخروج من هذا الانسداد الثقافي، يقترح الأستاذ شبار “تحريرا للمفاهيم” فلا أحد ينبغي أن يدعي “الملكية المفاهيمية”، فالمفاهيم مشاعة بين أفراد الذات الواحدة، كما أنها هي مِلك للبشرية جمعاء، ففي الوطن العربي، لاينبغي أن يكون الدفاع عن الشريعة “ماركة مسجلة” يحتكرها خطاب التيار الإسلامي، بل إن مفهوم الشريعة من حق التيارات العَلمانية، أن تراه برؤيتها وبأسلوبها الذي ترضاه، كما أن الدفاع عن الحداثة ليس ملكا للتيارات العَلمانية، بل الحداثة كمفهوم من حق التيارات الإسلامية أن تراه حسب مرجعيتها الفكرية و المذهبية، ولا أحد من التيارات يفرض على الآخر ما يراه هو، بل ينبغي أن تبحث كل هذه التيارات عن المشتركات الأساسية في كل المفاهيم.

هذا داخل المجال الحضاري الواحد، وكذلك الأمر بالنسبة لتواصل الشرق مع الغرب، فالشرق ليس من حقه أن يدعي الدفاع المطلق عن مفهوم الدين، دون أن يفتح جسور التواصل مع الغرب، لأن الدين للعالمين؛ وليس من حق هذا الغرب أن يدعي الدفاع عن مفهوم التقدم ويفرضه على غيره، دون أن يربط جسور التواصل مع هذا الشرق، فهو أيضا يريد التقدم حسب رؤيته هو.

إن تحرير المفاهيم، من شأنه أن يُنشئ حوضا إنسانيا يلتقي في دائرة المشتركات، ويتفهم الخصوصيات التي تربتط بالسياقات الزمانية و المكانية، وإذا ما اقتنع الإنسان بفكرة الكونية المشتركة والخصوصية المحلية في المفاهيم، فإن هذا الاقتناع سيسهم في خلق ثقافة تربوية قيمية بين كل الجماعات و الشعوب، مفادها أن الاختلاف ليسا مطلقا، وأن الاتفاق ليسا مطلقا، بمعنى أن الاتفاق و الاختلاف حقيقتان وجوديتان لايمكن إنكارهما، فيقتنع الفكر المعاصر “بنسبية المفاهيم”، وهذا هو الأساس الدافع لتجديد المعرفة، و تطوير الأفكار، وبناء التقدم المنشود.

‫تعليقات الزوار

7
  • sifao
    الخميس 16 يناير 2014 - 01:43

    لاول مرة اسمع ب"مفهوم البقرة " رغم خشونة وضخامة هذا الكائن الحيواني وما تدره من الحليب وتلده من عجول ، من بين خصائص المفهوم كونه مجرد من الخصائص الحسية العينية ، فنقول مفهم الحرية او العدالة اوالجمال ، كما قد يحيل الى بعض خصائص "الموجودات" الرياضية والهندسية ، كالمكان مثلا او الفزيائية كالقوة والطاقة ، لكن ان نقول مفهوم "الحمار" او "الذباب" او … فهذا مضحك جدا ، لم أقرأ كتاب سعيد سبار ولا حضرت عرضه ، لكن المؤكد انك لم تفهم شيئا مما قاله ، لأن استعاب دلالة المفاهيم تحتاج الى بعض الخصائص الذهنية للانسان ، ومن بينها القدرة على التمثل لعقلي ، وهذا ما تفتقر اليه العقول المستبلة بثقافة اللاهوت .

  • يوسف
    الخميس 16 يناير 2014 - 03:05

    من وضع المفاهيم الكونية، ، من ياترى، لأنني لست متفق ولا أريد الإنخراط

  • marrueccos
    الخميس 16 يناير 2014 - 09:27

    بين الكوني والمحلي تسكن الشياطين وأضن أن مسكنها الوطن العربي حفظنا الله منه كما العالم العربي !!!!!!!

  • القضاعي
    الخميس 16 يناير 2014 - 09:27

    وفي نهاية المطاف : ان الله يديل من الباطل.

  • said amraoui
    الخميس 16 يناير 2014 - 13:33

    هناك عوامل (دينية وسياسية) فوقية,هي التي تفتعل الاختلاف بين الكوني والمحلي ,او العالمي والخصوصي,هناك اختلاف موضوعي قد يمكن مناقشته بصدق وامانة فكرية نزيهة,غايتها القصوى,سد الفجوة بين الشرق والغرب,والقطع مع شرق (مؤمن) وغرب (كافر),لكن هذا( الفكرالامين) يوجد بين مطرقة السياسة وسندان الدين,فالاول يفتعل الخصوصية المحلية,للهيمنة عن السلطة والثروة (شرعية الحكم الابدي),والثاني باسم الشرعية الدينية (دين صحيح,ودين محرف)وهذان الاتجاهان, (السياسي والديني) بين الخصوصي الشرقي (المختلف ايضا لانه ليس هناك خصوصي مطلق) والعالمي الغربي (المختلف هو ايضا في خصوصيته) فمثلا ماهي الخلاصة من دراسة (علم الاديان المقارن)؟لا شيء,وماهي الخلاصة من عولمة الديمقراطية؟لاشيء,فكذلك بالنسبة لعولمة الفكرالذي يجتهذ في محاولة انظمام الكل(العالمين)تحت غطاء الوحدة (الانسانية التي ليست مسالة اللون او الجنس او العرق,رغم اهميتها ,كما تلمح لذلك كلمة (العالمين) مرتكزة عن (الظاهر الانساني الموحد),دون التركيز عن (الباطن المختلف),فمسالة (الرحمة للعالمين) سواء باسم (الدين),او باسم (الديمقراطية) لم يحققا هذه الوحدة الانسانية المرجوة؟؟

  • حميد العمراني
    الجمعة 17 يناير 2014 - 16:28

    إن المفهوم هو مؤسس المصطلح و المصطلح بدره يعطي يتلاقح مع مفاهيم قديمة ليعطي مفاهيم جديدة تساهم في نمذجة الواقع المعقد ليصبح بسيطا و يسهل التحكم فيه و يصبح في خدمة الحضارة والتقدم.
    و من المعلوم أن صانع المصطلحات انطلاقا من مفاهيم معينة هو قائد التقدم العلمي و الحضاري.

  • sifao
    الجمعة 17 يناير 2014 - 19:56

    لن يصير الحيط القصير جدارا الا اذا شمرت النساء على سواعدهن ، ويتخلصن من عقدة انوثتهن ، لمسة المرأة ما تزال مغيبة في حياتنا اليومية ، لا نستشعرها الا عندما نشم رائحة الطهي المنبعثة من الكوزينا ، استحضارها في الحياة كإنسان قد يضيف نفسا جديدا الى اجساد الرجال المتعبة …

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال