صدام الحضارات أم صراع القوميات والطوائف والقبائل ؟

صدام الحضارات أم صراع القوميات والطوائف والقبائل ؟
الأحد 31 يناير 2016 - 15:55

بعد انهيار الكتلة الإشتراكية وسقوط الحواجز التي كانت تمنع شعوبا أوروبية شرقية من التحالف مع الغرب والتعامل معه، تنبأ هانتينتون بالعودة إلى مواجهات عتيقة : إلى ما سماه ‘صدام الحضارات’. من حقنا التشكيك في هاته التسمية ونعت الخراب المترتب عنها بصدام الهمجيات مهما كانت قيمة الحضارات التي أفرزتها شعوب الشرق والغرب على حد سواء. ومن المؤكد أن الأستاذ الجامعي الأمريكي لم ينتبه إلى أن ميدان التاريخ ضل مفتوحا كذلك لعودة الصراع بين الإثنيات والقبائل والعشائر والقوميات وما شابه ذلك من عصبيات بشرية عريقة في القدم.

فإن كان لنظرية هانتينتون ما يبررها على مستوى القارات والقوات العظمى فإنها لا تنطبق على ما يحدث يوميا من تناحرات بين بني البشر داخل إفريقيا وبغرب آسيا. نرى بالفعل أن عهد الإديولوجيات قد تولى وأن الأبواب قد انفتحت على مصراعيها للرأسمالية والليبرالية الإقتصادية بكل الدول الشرقية، إبتداءا من ألمانيا وبولونيا وصولا إلى الصين والفيتنام. فتنافس المنتوجات بالأسواق العالمية حل محل التناقضات النظرية فيما يتعلق بفائض القيمة وبالطبقة المستفيدة منه. لقد شاهدنا بأم أعيننا تحول الصين الشيوعية الفقيرة إلى عملاق رأسمالي يستثمر فائض أمواله بكل أرجاء العالم. ولم تتنبأ بهذا التحول الجذري لا نظريات ماركس ولا تفسيرات سمير أمين ولا تخاريف حزب البعث.

لكنه لا يمكن للصراعات العابرة للقارات أن تحجب عن أعيننا الصدامات المتواصلة داخل المناطق المختلفة. فما نوعية الحروب الحالية بعدما خسرت الإشتراكية العالمية مقابلتها الإقصاءية مع الليبرالية الغربية ؟ قد نتوهم أن قراء العربية دوما أطفال يكتفون برواية الكراكيز وأن المحرك لها – من وراء حجاب – هو الغرب، لتكتسي بالتالي نظرية هانتينتون مصداقيتها ولنتبناها كتفسير صحيح لكل ما يجري بإفريقيا وبالشرق الأوسط. قد نعتقد أنه بإمكاننا تناسى تفاصيل الأحداث لنتمادى في أوهامنا ولنتبنى نظرية تحكم أمريكا والغرب في كل شاذة وفاذة. أما واقع الحال فيدلنا، بكل بساطة، على أن شعوب الشرق الأوسط كانت وما زالت على عاداتها العريقة : لم يتخلص الفرس ولا العرب ولا البشتون ولا التركمان في يوم من الأيام من العصبية التي هي أساس سلطتهم المبنية دوما على سيطرة عرقية أو طائفية. فالجمهورية الديموقراطية التركية نفسها لم تعترف أبدا بحق الأقليات الدينية والعرقية وما زالت تعتبر الأكراد كأعداء يهددون أركان الدولة من الداخل.

ولا يحق لنا في هذا الإطار أن ننسى مقومات السلطة الحقيقية التي تمتلكها الدول والتكتلات المختلفة. فنوعية الأسلحة وإمكانية استعمالها هما اللتان تقرران – في آخر المطاف – قدرة العشائر والدول والقوميات والحضارات والتحالفات على صد الهجمات التي قد تتعرض لها مجموعاتنا البشرية المختلفة مهما كانت أصولها أو معتقداتها.

لقد وقفنا بأم أعيننا على ما ينتجه الردع النووي (la dissuasion nucléaire) من توزيع للقوى العالمية منذ ما عاشه اليابانيون من ويلات بهروشيما وناكازاكي. فالتهديد المتبادل بالإندثار هو ما لا يسمح للصين أن تواجه اليابان وحليفها الأمريكي ولا يسمح للهند أن تدخل في صراع مفتوح مع باكستان ولا يسمح لأوروبا أن تدخل في حرب مباشرة مع روسيا، باوكرانيا مثلا، ولا يسمح لروسيا أن تتابع استفزازاتها لتركيا المنخرطة، كما نعلم، بالحلف الأطلسي. ونفس التهديدات النووية لا تسمح لدول الشرق الأوسط أن تعيد الكرة مرة أخرى لتتحالف ضد إسرائيل وسندها الأمريكي. ونفس التهديد بالإندثار هو الذي لا يسمح لإيران، على ما أعتقد، أن تدخل في صراع حاسم مع السعودية طالما بقيت أمريكا حليفة لهاته الدولة الإسلامية رغم أنها هي الأخرى قاطعة للأعناق معارضيها السياسيين بالساحة العمومية.

فلا مفر للدويلات والإمارات والعشائر والمنظمات التي لا تملك ما يكفي من قوة الردع غير إفراغ فائض عنفها في زنزانات التعذيب وبساحات الشنق والخنق والجلد والصلب والحرق والذبح والقطع أو في صراعات مسلحة جانبية أو داخلية تؤدي إلى انشغال زبانيتها وعساكرها في صراعات لا تؤدي بالضرورة إلى إنهزام صريح قد يقوم بتعرية أسس السلطة التي تنبني عليها شرعيتها المحلية سواء تعلق الأمر بسوريا، إيران، السعودية، تركيا أو بمناطق النفوذ التي تسيطر على منظمات مثل داعش أو حزب الله أو بوكو حرام.

فبجانب الصراعات البعيدة المدى بين القوى العظمى التي قد يحلو لنا تسميتها بصراع الحضارات نرى أن المجال واسع لعودة التناحرات العتيقة بين الإثنيات والقبائل والعشائر والقوميات والطوائف المختلفة. فلصناعة الأسلحة إذن مستقبل زاهر رغم كل توصيات الأمم التي لم تكن أبدا متحدة.

‫تعليقات الزوار

5
  • mistral
    الإثنين 1 فبراير 2016 - 00:21

    لا يوجد صراع بين الحضارات و لا يوجد صراع بين ثقافات الشعوب….

    الحضارة و الثقافة انتاج انساني, هناك دائما تلاقح بين الحضارات الانسانية….

    الصراع يكون بين الطبقات الاجتماعية, بين الطبقة المستبدة و الاخرى

    الخاضعة, بين الفقراء و الاغنياء …وهذا هو جوهر التاريخ الانساني حسب

    ماركس…و حسب الدين الصراع يكون بين الانسان و الشيطان.

    اما في المغرب فالصراع يكون بين المخزن و المجتمع المدني اي بين

    تماسيح و عفاريت ابن كيران و المعطلين امام البرلمان.

  • arsad
    الإثنين 1 فبراير 2016 - 10:53

    يقال الحاجة ام الاختراع هذا عند العقلاء اما عند الجهال فالحاجة ام الاقصاء.
    الزعيم يقول من نازعنا الملك نازعناه حياته وينهج سياسة جوع تتبع حتى سار كل جائع يشتاق الى الملك لان الملك نسية ان الفطرة تتحول فيصبح التقليد والتشبيه مطلب كل نفس وعند هذه الحالة تصل الامور الى مبتغى الحسم فتتكش الافكاك عن انيابها وادراسها وتصبح الفرائس وليمة

  • kamal mazdi
    الإثنين 1 فبراير 2016 - 15:18

    لقد قرأت هذا المقال من كل جوانب وأجد أن كاتبنا المحترم السيد باسكال أفلح وبشكل جيد في تحديد نوعية الصراعات القائمة اليوم بشقها الإقتصادي بين جبابرة والعمالقة وبمستوها الطائفي العديم بين النطيحة وما أكل السبع،لكن الذي أحزنا نفوسنا هو عدم إيجاد تفسير صريح من كاتبنا يشفي به غليل قرائه المتجلي في أسباب هذا الفوران ،أليس الدول الإستبدادية المتسلطة بمخالبها على شعوبها هي التي ساهت بمقدرات وخيرات شعوبها حتى للحظة التي أصبحت الفوضى صورة الواقع اليومي في زماننا هذا،

  • قلب الهجوم
    الإثنين 1 فبراير 2016 - 16:04

    أصبحت الكرة أفيون الشعوب تماما كالدين المحرّف الذي كان ولا يزال أفيون الشعوب.
    لم أكن أتخيل أن هناك علاقة ما بين الدين والكرة إلى أن صادفت هذا النص في المصادر الإسلامية:
    عندما ولي عثمان الخلافة دخل عليه أبو سفيان،فقال:يا معشر بني أمية!إن الخلافة صارت في تيم وعدي حتى طمعت فيها،وقد صارت إليكم فتلقفوها بينكم تلقف الصبي الكرة،فوالله ما من جنة ولا نار،فصاح به عثمان:"قم عني،فعل الله بك وفعل".الاغاني،النزاع والتخاصم للمقريزي،وقريبا منه في مروج الذهب،الإمامة والسياسة.
    أوجه الشبه بين السياسة والكرة عديدة،فنحن لا نفتأ نتحدث عن اللعبة السياسية أو الديمقراطية،وعن اللاعبين السياسيين البارعين الذين يتقنون المراوغة،ويصلون إلى أهدافهم عبر التسلل أو استعمال الخشونة المتعمدة،أو استغلال طول اليد في غفلة عن الحكم،أو رشوة الأخير،أو شراء"الماتش"من الخصم.
    الخاسر الأكبر في اللعبة هو الجمهور المغفل الذي لم يدرك أنه هو الكرة الحقيقية التي يقذفها هذا ليتلقفها ذاك،وأنه يضيع ماله ووقته وجهده في متابعة السراب،وأن رؤوس الساسة ملؤها الفراغ تماما كالكرة،لكن بفضل الجمهور يتحول ذلك الفراغ إلى ملايين الفرنكات والدولارات.

  • abou reda
    الثلاثاء 2 فبراير 2016 - 20:01

    بل هو صدام للعقليات..
    عقلية تعيش حاضرها ,استطاعت غور الفضاء وتذليل الالم والشر..وزرع الاعضاء
    الجسدية وتحسين ظروف عيش مواطنيها من سيء الى احسن…
    وعقلية تعيش ماضيها,وتجد فيه اجوبة لمستقبلها..اعتمادا على يقين غبي.والنتيجة
    واضحة وضوح الشمس,على الفرق بين كلا العقليتن…..!!!!!

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 1

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين