بين قضايا الأمم وقضايا الحكام

بين قضايا الأمم وقضايا الحكام
أرشيف
الجمعة 26 فبراير 2021 - 02:25

خلال اجتماع عربي رفيع المستوى، قابلت شقيقا جزائريا على رأس وفد دبلوماسي جزائري سام. وبكل عفوية وتلقائية كان العناق حميميا وحارا. تمليه دائما وبتمظهر انسيابي روابط ووشائج الجوار، ومشترك العقيدة والتاريخ واللسان. سألني الشقيق الجار عن الرحلة وعن حال المغرب. أجبته مازحا: في كل يوم تغرب فيه شمس العرب والأمازيغ، لتعاود “الشروق” من جديد!

فرد علي مبتسما: الشروق من عندنا إذا؟ قلت له: اسمها “الشروق الجزائرية” طبعًا من عندكم وديالكم! انفجر ضاحكا ثم قال: “راك تتبع الصحافة متاعنا! رواح رواح نشربو قهوة”. أخذني إلى شرفة قريبة من بهو الفندق ثم جلسنا نتجاذب أطراف الحديث. وفي معرض النقاش قلت له عندي سؤال. أجابني تفضل! ثم استطردت: حنا خاوة كيما راكم تقولو في الجزائر؟ أجابني: طبعا! ثم واصلت: كيف؟ تقولو احنا خاوة وتشتغلو ضد اخوتكم! تقولو حنا خاوة وصحافتكم تهاجم إخوانها وجيرانها! تقولو حنا خاوة ومواقفكم كلها معادية للمغرب! تقولو حنا خاوة وما تفوتوا ولو فرصة وحدة للضرب فالمغرب، فمصاليحه! فوحدة ترابو! في ثوابته الدستورية وفكل اللي إيجي منو ولا فيه ريحتو! حدقت في عينيه وخاطبته: اعطيني جواب واحد مقنع على مشكلتكم مع المغرب. جواب واحد تقنع بيه نفسك وتقنعني بيه! ونقنعو بيه ربما شعوبنا إذا اقتضى الحال، ويعطي معنى حقيقي “لخاوة خاوة”! ارتبك للحظة ثم نظر إلي وقال شوف يا سيدي: “حنا ما عندنا مشكل مع خوتنا المغاربة. حنا فقط إلى جانب “شعب صحراوي مسلم” تائه فوق ترابنا، كما الجزائر دائما مع الشعوب المقهورة”.

وهنا انفجرت ضاحكا. طبعًا لأنني كنت أتوقع وكما دائما نفس الإجابة المتملصة والمراوغة والمماطلة. نظر إلي مندهشا وقال: ما المضحك في هذا؟ أجبته مازحا: ذكرتني في قول ابن خلدون “الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها”. ثم تابعت: سأنصت إليك اقتداء بقول ابن خلدون دائما: “قمة الأدب أن تنصت إلى شخص يحدثك في أمر أنت تعرفه جيدا وهو يجهله” واسمح لي هنا أن أضيف “أو يتجاهله”. ضحك مرة أخرى قائلا:” والله tu es grave”. رديت عليه: “أنا لست إلا شخص، Ce qui est grave أخي هو زرع بذور الفتنة بين الأشقاء وتعليل مواقف العداء المجاني بأشياء شدت من شعرها بتعبير عميد الأدب العربي طه حسين.

ثم اسمح لي بسؤال آخر! هل أقامت الجزائر الدنيا ولم تقعدها حول شعب الإيغور المسلم المضطهد في الصين؟ أو شعب الروهينكا المقهور والمهجر قسرا من موطنه وأرضه؟ وهل حركت الجزائر ساكنا أو اتخذت موقفا نصرة لأكبر أقلية مسلمة في العالم في الهند والذي يبلغ عددها 172 مليون مسلم أي أربع مرات عدد سكان الجزائر، عندما تعرض المسلمون بولاية آسام الهندية لأبشع أساليب التقتيل والتعذيب على يد الهندوس وأغلبهم من النساء والأطفال. ثم ما رأيك في القمع والاضطهاد الذي تعرض له المسلمون في ظل الحكم الشيوعي في روسيا، وفي ظل الاتحاد السوفياتي السابق، حليفكم اليوم، والذي كان يضم ست جمهوريات مسلمة. وبعدها وقعت الجزائر بيانا حول الشراكة الاستراتيجية مع نفس البلد الذي قهر شعبا مسلما فوق أراضيه.

ثم كيف تتحدثون عن “شعب صحراوي مسلم” وتستكثرون عليه النطق بهويته المغربية وانتماءه لبلاد وأرض السلاطين المسلمين. هل جاء هذا “الشعب” من كوكب آخر؟ وهل دون مؤرخوكم ماض لهذا “الشعب” خارجا عن تاريخ المغرب؟ وهل حددت بوصلتكم ونظامكم العالمي لتحديد المواقع (GPS) تربة له خارج جغرافيا المغرب؟ وهنا أجدني أخي محاصرا بين خيارين: الانتقائية أو المزاجية في تمثلكم للأمور. ثم اسمح لي أن أذكرك أخي أن المغرب أيضا إلى جانب الشعوب المقهورة حقيقة، وليس الجماعات الانفصالية عن الوحدة وعن التاريخ وعن النضال المشترك من أجل الحرية ومن أجل الكرامة ومن أجل الوطن أساسا وليس من أجل الجماعة. ولو اعتمدنا منطقكم، أيها الشقيق، لاحتضنا الزعيم الأمازيغي المعارض مؤسس حركة “الماك” (حركة انفصال منطقة القبائل) الصديق فرحات مهني، إلى جانب معارضين جزائريين كثر من باب المعاملة بالمثل، واستنادا على قولهم إنهم شعب مقهور في بلدهم.

لكنكم لم تكونوا يوما، وأستسمحك أخي مرة أخرى، نموذجا لنا في الأخوة ومراعاة حسن الجوار واحترام السيادة الترابية لكل الدول، فبالأحرى وحدة الجار. قضيتنا قضية أمة! وهي عندكم قضية حكام! نظر إلي وخاطبني مبتسما: “أنت كدير علي السياسة يا محمد”. وكما دائما جواب مراوغ يفسره غياب منطق مقنع في طرح الشقيق. ثم تابع: ما حجتك في كلامك الجميل هذا ولو أنه مسيء لنا. أجبته ليس الرهان في متن كلام جميل أو مسيء، الأمر أكثر عمقا من مجرد إساءة، إنه هدر للزمن المغاربي والبناء الأخوي ومعانقة هواجس شعبينا.

وعودة إلى سؤالك سأجيبك: لعلك لم تنتبه عندما وصفت الزعيم الأمازيغي فرحات مهني بالصديق. قاطعني: لا لا انتبهت، هو من القبايل بحالك شيء طبيعي. أجبته أنا أمازيغي ولست من القبايل. متسائلا، وما الفرق؟ الفرق أن القبايل منطقة الأمازيغ في الجزائر، أما المغرب فمناطقه كلها أمازيغية شمالا ووسطا وجنوبا. ثم تابعت، طيب! أتذكر عندما أعلن فرحات عن حكومة قبائلية مؤقتة بباريس وهو يتحدث عن “ظلم واحتقار وهيمنة” الحكومة الجزائرية في بيانه الشهير منددا: “منعنا من هويتنا ولغتنا وثقافتنا القبائلية وتمت سرقة ثرواتنا الطبيعية. نحن نحكم اليوم مثل المستعمرين بل كأجانب في الجزائر؟”.

قبلها بشهر، حضر معنا فرحات فعاليات الجامعة الشعبية حول الأمازيغية بالصخيرات. وكنا ندرس معا إمكانية وسبل وآليات التنزيل الفعلي للأمازيغية ليس فقط كلغة وإنما كنمط حياة. وكان لفرحات إسهام كبير في منتديات الجامعة. عندها كان بيان باريس جاهزا بين يدي الصديق فرحات مهني بنفس الصيغة التي صدحت من منابر فرنسا. لكننا لم نستسغ ذلك. وبعد جهد جهيد توسلنا فرحات أن يعدل عن تلاوة البيان احتراما للجارة الجزائر ولسيادتها في تدبير أمورها الداخلية، حتى لا يفهم أن المغرب له يد في ذلك. وهو الاحترام الذي يدفع الجار لينأى بنفسه عن التدافعات الداخلية بين أبناء وبنات الجلدة الواحدة، عوض اقتناص الفرص للنيل من الإخوة والأشقاء.

حدث هذا منذ عقد من الزمن. ومنذ ذاك الحين، وحتى قبله، لم يشفع للمغرب الجار موقف واحد في أعين الجارة: نعم! المغرب الجار ناصر الثورة التحريرية بالجزائر الشقيقة، ورفيقها في الجهاد المشترك.

ألقى نظرة على ساعته اليدوية وهو يهم بالوقوف وبعض التردد يظهر على محياه قائلا: ما زال يلزمنا حديث طويل في هذا الموضوع. أجبته: يلزمنا نوايا حسنة وصفاء السريرة وإرادة حقيقية، أما الوقت فقد أضعنا الكثير منه أخي. لكن تذكر قول الحائز على جائزة نوبل للآداب جورج برنارد شو “احذر من رجل ضربته ولم يرد لك الضربة فهو لن يسامحك ولن يدعك تسامح نفسك”. عدنا إلى بهو الفندق فكانت مصافحة الوداع مع الأخ الجزائري الشقيق.

بعد مغادرته ظل إحساسي مرتبكا. شعرت بنوع من الإحباط كوني لم أعثر، في حديثي مع الشقيق، على ما يمكن أن يشفي غليلي أو يجيب على ما يخالج خاطري من تساؤلات حول عداء يكنه لنا حكام الجزائر الشقيقة. لكنني وفي الوقت نفسه شعرت بنوع من الارتياح والفخر بمغربيتي. وهو ليس إحساسا شوفينيا كما يمكن أن يتبادر للأذهان، وإنما شعور فطري يمليه التسامح المغربي. لأن “الأصل في التسامح”، كما جاء على لسان الدكتور والأديب المصري محمد كامل حسن: “أن تستطيع الحياة مع قوم تعرف يقينا أنهم مخطئون”. “فالتسامح الحقيقي هو أن تمنح الكراهية بداخلك غرفة صغيرة جدا في قلبك”. وهذا قول للأديبة الإنجليزية جاين أوستن.

‫تعليقات الزوار

8
  • christopher
    الجمعة 26 فبراير 2021 - 12:17

    مقال ،فيه حوار رصين ومقنع، مع صديق جزائري ومرافعة جيدة،للأخ محمد اوزين،مشكورا،على ثوابت ومقدسات الوطن.لانملك الا ان نشكره على وطنيته الصادقة،كمغربي،وامازيغي حر

  • المغرب اكبر من كل قزم
    الجمعة 26 فبراير 2021 - 12:37

    الجزائريون يعرفون من هو المغرب ومن هم المغاربة من زمان
    أما اليوم وقد ركب المغرب سرعة براقه فقد صدمت الكراكيز التي تسير اللعبة
    لكن مع الاسف انقلب السحر على الساحر
    والعالم اليوم كله يقول المغرب واحد من طنجة إلى الكويرة

    الفرق أن القبايل منطقة الأمازيغ في الجزائر، أما المغرب فمناطقه كلها أمازيغية

    لحاجة في نفس يعقوب

    اولا المغرب في صحراءه والصحراء في مغربها
    العالم كله يعرف ان المغرب هو المغرب فقط
    وطن شعب علم هوية دون نزعة عرقية

    تانيا عسل مسموم
    يتكلم عن القضية المغربية باقحام البربرية

    شعب وعلم المغرب واحد دون عرقية قبلية عنصرية شعوبية

  • وا هاكاك عيقو را غي لحاسا
    الجمعة 26 فبراير 2021 - 13:27

    اوكي و قتالا قتلتو الهيش و الحبيب هراس و راكوم غي شمايت و المغرب ديما لفوق و الصحرا مغربية و عاش الملك و الخزي للخونة

  • يوسف
    الجمعة 26 فبراير 2021 - 14:14

    تحية للاخ محمد اوزين عن حسه الوطني ودفاعه عن الثوابت المغربية. أحيي فيك شخصيتك الكاريزمية في الترافع البناء على قضيتنا الوطنية الصحراء المغربية. المامك بدساءس خصوم الوحدة الترابية خاصة والمغاربية عامة باعتبارك كاتبا للدولة في الخارجية سابقا يعبر عن دقة المعلومات الواردة في المقال.

  • قوة الشارع .
    الجمعة 26 فبراير 2021 - 15:21

    تقول الجزائر أن الصحراء الغربية هي آخر مستعمرة في القارة الإفريقية وكأن سبتة و مليلية تقع في جزر الوقواق وهي مع انفصال الصحراء ولكنها بالمقابل ضد انفصال دولة القبائل وهي مع تقرير المصير ولكنها صمتت صمت الأموات عندما سحقت إسبانيا ثورة الباسك وهي ضد التطبيع ولكنها لم تحرك ساكنا عندما اقامت موريتانيا علاقات كاملة مع اسرائيل . وهي ضد الملكيات وتعتبر ها رجعية وهي من جعل شعبا يسبح فوق بحر من الغاز يعيش فقرا ابشع من فقر شعب الصومال . لا اعرف لماذا يقبل الشعب الجزائري العيش في ظل هذا النظام الفاشي نحن لاندعوا لثورة حمقاء تأتي على الأخضر واليابس بل إلى عصيان مدني ونزول إلى الشارع لا ينفض حتى تسليم السلطة للمدنيين ومحاكمة كل من تورط في نهب الثروات .

  • مواطن
    السبت 27 فبراير 2021 - 20:58

    متفق معك تماما في معضم ما قلته ،لاكني اختلف معك فى جزئية، الأمازيغ في الجزائر يوجدون في الوسط كما قلت وهم القبائل الاحرار لاكن كدالك بوجدون في الشرق وهم الشاوية وفي الوسط في غرداية وفي الجنوب في تمنراست وادرار: الطوارق وفي الغرب قرب الحدود الجزائرية المغربية

  • lhabib
    الأحد 28 فبراير 2021 - 12:48

    تحية وتقدير اليك أستاذنا العزيز هذه القصة لها مغزى عميق في ما يخص العلاقة بين شعب دجن وعيه بالاعلام المزيف وشعب يبحث عن الوءام و الاستقرار و التعاون بين الأشقاء المغاربة و الجزائريين عائلات متداخلة في ما بينها ممتدة من الشرق إلى الغرب و من الشمال إلى الجنوب لكن من يحكم في الجزائر يتجاهل كل هذا

  • وطني
    الأحد 28 فبراير 2021 - 22:17

    اسبانيا تعزز الجهود الاممية في قضية الصحراء ولطالما يتجدد الحوار حول الموضوع ومن قبل الاحزاب السياسية سينعم المغرب باستقلالية واغتنائه السياسي.

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 1

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين