مسارات التونسي حسيب بن عمار .. وزير ديمقراطي في "نظام شمولي"

مسارات التونسي حسيب بن عمار .. وزير ديمقراطي في "نظام شمولي"
صورة: هسبريس
الأربعاء 7 أبريل 2021 - 00:19

ما حدث في الشارع الرئيسي بالعاصمة التونسية في أحد أيام 1970 كان أمرا غير مألوف؛ إذ انطلقت جموع من الطلاب في مظاهرة هاتفين ضد مشروع وزير الخارجية الأمريكي آنذاك وليم روجرز لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي. كان روجرز في زيارة إلى تونس ذلك اليوم في إطار جولة إلى عواصم عربية عدة للترويج لمشروع التسوية الذي يحمل اسمه.

وبينما كان الطلاب يهتفون، حلَّ بالمكان مدير الحزب الاشتراكي الدستوري (الحزب الواحد) حسيب بن عمار، وأخذ يتحاور مع الطلبة لإقناعهم بأن الرسالة وصلت، داعيا سيارات الشرطة لنقلهم إلى المبيتات الجامعية، وليس إلى محلات الشرطة وثكنات الجيش. أكثر من ذلك، صعد مدير الحزب مع الطلاب في حافلات الشرطة، ورافقهم إلى المبيتات الطلابية. ولم يقف الأمر عند ذلك، بل أنشد الطلاب في الطريق بعض أناشيدهم، فأنشد المسؤول السامي معهم.

نزاع بين الصقور والحمائم

وعلى الرغم من الانتقادات اللاذعة التي وجهها جناح الصقور في قيادة الحزب إلى المدير، تمسك الأخير بموقفه، معتبرا أن أسلوبه كان ناجعا في تبريد غضب الشباب واحتواء مظاهرتهم. لم يكن ذلك الموقف هو الخروج الوحيد عن النص، فقد كانت مسيرة حسيب بن عمار السياسية حافلة بها، وهو المسار الذي يشرحه الزميل الإعلامي رشيد خشانة، في كتاب أصدره مؤخرا، يقع في 264 صفحة.

وضم الكتاب بين دفتيه أهم الافتتاحيات والمقالات التي كتبها حسيب بن عمار في صحيفة “الرأي”، التي أسسها وأدارها بين 1977 و1987. كما احتوى على وثائق تنشر للمرة الأولى، من بينها نص استقالته من وزارة الدفاع الوطني، التي تقدم بها إلى الرئيس الحبيب بورقيبة في 22 أكتوبر 1971.

مشروع إصلاحي

كان حسيب بن عمار من جناح الحمائم في الحزب الحاكم، وكان يحلم بمشروع إصلاحي، مثلما يشير إلى ذلك عنوان الكتاب “حسيب بن عمار وحلم المشروع الإصلاحي”.

يعتمد هذا المشروع على الحوار وتكريس التعددية لتحقيق الاستقرار والأمن، وبهذه الصفة كان يُعارض اللجوء للقمع الذي مارسه الحزب الحاكم، بقيادة الوزيرين محمد الصياح وعبد الله فرحات، وخاصة يوم الإضراب العام 26 يناير 1978، المعروف بـ”الخميس الأسود”.

في سياق ذلك الصراع، استطاع حسيب أن يحصل على ترخيص لإصدار أول صحيفة مستقلة في أواخر 1977، وهي “الرأي” الأسبوعية، بعد انتظار استمر سنة كاملة.

وكانت السلطات تستثمر تلك الشمعة لتنفي وجود الظلام. لكن في مقابل الحديث الحكومي المعسول عن حرية الصحافة، ينبئُنا حسيب في هذا الكتاب بأن 22 دعوى قضائية رُفعت ضد الصحيفة وشقيقتها الصغرى “Démocratie” (أسبوعية ناطقة بالفرنسية).

كما أن مدير الصحيفتين استُدعي إلى المحاكم، بما في ذلك المحكمة العسكرية، بالرغم من أنه كان وزيرا للدفاع، وبالتالي حاميا للمؤسسة العسكرية. وقد استقطبت “الرأي” كتابا وصحافيين وسياسيين بارزين، وكانت تطبع 20 ألف نسخة، ويرتفع السحب إلى 40 ألفا، وحتى 60 ألفا، بمناسبة أحداث كبيرة. لكنها لم تتمتع بالاعلانات العمومية، ولا بالتمويل من الدولة، بل كانت تعتمد أساسا على مبيعاتها.

اختبار للجنرال بن علي

يجوز القول إن مقالات حسيب بن عمار، التي أعاد المؤلف نشر أكثرها في هذا الكتاب، تطرقت إلى أهم عناوين الإصلاح في تونس، انطلاقا من ضرورة تطوير البناء السياسي، إلى مقتضيات تحقيق التنمية في المناطق المحرومة والمُهمشة، إلى العدل الاجتماعي وتحرير المنظمة العمالية من وصاية الحكم، وصولا إلى تحرير الإعلام من أغلال الرقابة الظاهرة والمستترة، إلى إرساء تعددية لا تُقصي أي تيار من التيارات الوطنية.

وفي هذا السياق، كان حسيب الديمقراطي يُذكر دوما في “الرأي” بالأحزاب التي لم تحصل على ترخيص العمل القانوني، مطالبا بتسوية أوضاعها. ولذا لم يكن مستغربا أن ينالها ما نالها من المصادرات والمحاكمات والتعطيل عن الصدور. وكانت أقوى طعنة لهذا الطائر المُغرد بصوت الحرية، متمثلة في مصادرة العدد الأول من سلسلتها الجديدة، بعد انقلاب 7 نوفمبر 1987، على إثر احتجاب دام تسعة شهور. وكان السبب مقالا للكاتبة نزيهة رجيبة، بعنوان “نشاز” اعتُبر اختبارا لمدى تقبُل الحكم الجديد للنقد، فكان طبعا إخفاقا ذريعا لأولئك الحكام الجدد. وهكذا وُئدت “الرأي” نهائيا، من دون أن نعرف بأي ذنب قُتلت.

الأمن ليس خلف الرشاشات

من الأقوال المأثورة التي كان حسيب بن عمار يرددها ويكتبها “الأمن في القلوب أسلم بكثير، لسلامة البلاد ولنظام الحكم نفسه، من الأمن وراء الرشاشات، فنحن نعتقد أنه لا استقرار ما دام الحزب الاشتراكي الدستوري يحتكر السلطة السياسية، ولا نهوض ما دمنا نعتمد على مال الأجنبي أكثر من اعتمادنا على طاقاتنا، ولا مناعة ما دمنا نعتمد على الطائرات الأجنبية أكثر من اعتمادنا على متانة الجبهة الداخلية”.

ويضيف حسيب: “الحكمة تقتضي ألا نستنجد بالجيش لمجابهة الجماهير عندما تحتج على أوضاعها، فوظيفة الجيش الأساسية هي الدفاع عن حرمة الوطن” (“الرأي” 23 يناير 1981).

أما حرية الإعلام، فتحدث عنها حسيب بن عمار بلا قفازات، كاشفا بعبارات صريحة أمراض القطاع في اجتماع لأصحاب الصحف مع رئيس الوزراء محمد مزالي. ومما قاله في هذا الشأن: “كثيرا ما يُستبله المواطن وقد يحصل تحد لشعوره. ويبرز ذلك في الإذاعة مثلا في البرامج المستمرة من الصباح إلى المساء. وهناك من البرامج ما يبدو كأنه موجه إلى رجل أكثر منه إلى الشعب” (في إشارة إلى بورقيبة).

ويضيف حسيب: “ليس بصحيح القول إن هناك صحافة حرة تكتب ما تريد، بل هناك صحافة مستقلة عن النظام، لكنها غير حرة، ويعود ذلك إلى قانون الصحافة الذي هو كالسيف المسلول على رأسها. فالملاحظ أنه عندما يتقدم المواطن بالإعلان عن رغبته في إصدار صحيفة، يبقى يترقب سنة كاملة، أو لا يتحصل على الإيصال الذي ينص عليه القانون. وفي هذه الحالة، فإن الحكومة هي التي تخرق القانون عندما تمنع صحيفة من الصدور، ولا تُسلم مديرها القرار الذي يمكنه من الدفاع عن حقه لدى المحاكم، وهذا ما حصل لصحيفتنا التي ضربت رقما قياسيا في الدعاوى التي رفعتها السلطات ضدها. ولا يمكن أيضا أن نقول إن هناك صحافة حرة ما دامت الصحف لا تُعامل على قدم المساواة”.

انتخابات مزورة

من خلال المقالات المنشورة في الكتاب، نقرأ النقد اللاذع الذي كان حسيب يوجهه إلى النظام السياسي وإلى الانتخابات المغشوشة التي كانت تجري في العهد البورقيبي، والتي لم يتوان عن نعتها بالمهزلة. كما تعرض لمخرجات مؤتمرات الحزب الدستوري، مؤكدا أنها كانت فرصا لإصلاح نفسه وإصلاح أوضاع البلاد. وفي تعليقه على المؤتمر المنعقد في 1979، استغرب تكليف عناصر من الجيش الوطني “بمهمة حماية المؤتمر وتنظيمه، وهو أمر يحدث للمرة الأولى في حياة الحزب. وما كاد المؤتمر ينتهي حتى وضع رئيس الحزب (بورقيبة)، قاطعا ومقطوعا على جل مقرراته، وكأنه لم يقع، مبينا بذلك أن النفوذ الحقيقي في الحزب الاشتراكي الدستوري بيد رئيس الحزب، لا بيد القاعدة الحزبية، وأن المؤتمر أصاب أم لم يُصب، لا نفوذ له”. ومعلوم أن وزير الدفاع آنذاك عبد الله فرحات هو من هندس المؤتمر، بالاشتراك مع محمد الصياح، وبدعم من ريس الوزراء هادي نويرة.

إجمالا، يشكل هذا الكتاب مصدر معلومات عن لحظة مفصلية من تاريخ تونس في القرن العشرين، بين محاولات دمقرطة الحزب الحاكم والنظام السياسي في مطلع السبعينات، وبين انتزاع مكاسب ديمقراطية بفضل التضحيات، أبرزها ميلاد صحافة مستقلة مع ظهور “الرأي” و”Le Phare” (المنارة)، وبعث الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في 7 مايو 1977.

وبذلك، فإن هذا الكتاب، الذي التقى مؤلفه مع أكثر من عشرين شخصية كانت فاعلة في تلك الحقبة، يُضيف مرجعا للمكتبة التونسية والعربية حول كوابح الانتقال الديمقراطي في مهد “الربيع العربي”.

‫تعليقات الزوار

2
  • دلو بئر
    الأربعاء 7 أبريل 2021 - 00:54

    حسيب و عمار اسمان من الأسماء العربية لا وجود لهما في المغرب لا في الماضي ولا في الحاضر

  • بحث معرفي
    الأربعاء 7 أبريل 2021 - 06:41

    يستحق التنويه لانه يذكر بوقائع الماضي لتكون عبرة تنير طريق المستقبل.
    من أخطاء بورقيبة انه لصق بكرسي الرئاسة الى ان شاخ و خرف حتى صارت زوجته وسيلة تتدخل في تعيين و إقالة الوزراء وبعد أبعادها بالطلاق قامت بنت اخت الرئيس سعيدة السياسي بنفس الدور.
    و هكذا استغل بن علي الفراغ وانقض على الكرسي الذي يتجاوز مؤهلاته مما أدى إلى انتفاضة 2011.
    كان تونس تتوفر على نخبة من المثقفين الاكفاء في محيط بورقيبة لو فعل مثل سانغور في السنغال وانسحب في الوقت المناسب واختار من يستحق خلافته لكان المصير افضل.
    و من اخطاءه ايضا انه أساء ومعاملة الباي وعائلته وغدر بهم ، كما انه متهم بالموافقة على اغتيال الزعيم صالح بن يوسف واضطهاد أنصاره.

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات