الشاعر سعد سرحان يستحضر "عام الفوت".. القدم والقلم وما يسطرون

الشاعر سعد سرحان يستحضر "عام الفوت".. القدم والقلم وما يسطرون
صورة : أرشيف
السبت 25 مارس 2023 - 07:00

تماما كما كنا نتحدث عن عام الفيل وعام الجراد وعام البون يقترح علينا الشاعر المبدع سعد سرحان أن نسمّي في المغرب هذه السنة عام الفوت بفضل كل الإنجازات المذهلة التي حققتها المنتخبات والفرق المغربية في الاستحقاقات العالمية والقارية.. لكن سرحان على عادته، سرعان ما يفاجئ القارئ بانزياح لا مُتوَقَّع، حيث ينتقل بنا من القدم إلى القلم ليضعنا أمام مفارقات موجعة..

(عام الفوت)

لو جاز لنا أن نحذو حذو أسلافنا في إطلاق أسماء على بعض الأعوام، لتمييزها عن أترابها في نسل الدهر، كعام الفيل وعام الجوع وعام الجراد وعام التّيفوس وعام البون… لأطلقنا على عامنا هذا في المغرب اسم عام الفوت. فخلاله أبانت أقدام المغاربة، من الجنسين ومن مختلف الأعمار، عن علوّ كُعوبها، وأفحمت العالم والناس أنّ الزئير لم ينقرض في الجبالْ إلّا بعد صار له صدى لا يقلّ شراسة في غير مجالْ، وأنّ للأسود أسودًا ولبؤات وأشبالْ، يُكشّرون في الأقاصي كما في الأدغالْ.

(مغرب أكثر)

مع مغربِ كرة القدم بات المغربُ، هذا العامَ، أكثرَ مغربًا.

ففي مونديال قطر، كان إذا انتصر هذا المنتخب أو ذاك، تخرج جماهيره للهتاف والاحتفال، فيما كانت انتصارات المنتخب المغربي تُخرج ملايين البشر من مختلف الألسن والمِلل في جغرافيات شتّى.

في مونديال قطر تفرّق جسمُ المغرب في جسوم كثيرة، فإذا هو مُفردٌ بصيغة الجمع، فأكثر من قارّة بصيغة بلد.

وها نحن نشهد الآن، كيف أنّ العديد من المواهبْ، من مخلف الجنسيات والملاعبْ، يراجعون جيناتهم، عسى أن يجدوا بها رائحة المغرب في ساطورِ عقيقةِ أحدِ الأجداد، فتكون تأشيرتهم إلى قميص المنتخب.

(كرة نوبل)

تزامن هذا العام حفل تسليم الكرة الذهبية مع الإعلان عن الفائزين بجوائز نوبل، فبدا العالم أذكى من أقدامه في هذا بنفس القدر الذي تجلّى أفقر منها في ذاك.

فبينما كانت أكاديمية ستوكهولم تكرّم كهولًا وشيوخًا من ذوي العقول الجبّارة عن عقود من السهر على شؤون البشرية، من خلال ما تجري من أبحاث وتجارب، وما تجترح من حلول لمعضلات العالم، كانت الفيفا تحتفي بفتيان بعضُهم أدركَ بالكاد سنّ الحلم، فقط لأنّهم يتمتّعون بأقدام لَعوب يسيل لها لُعاب الأندية والمستشهرين والقنوات الرياضية… ويحتشد الخلق لمرآها ويختصم.

التغطية الإعلامية للحدثين أبرزت جملة من المفارقات، فبدا واضحًا انتصارُ العالم للإنسان المُحتفِل على حساب الإنسان العاقل. ولعلّ ذروتها تتركّز في المكافأة، ذلك أنّ الحاصل على جائزة نوبل يُكافَأ عن عمر مديد من الجِدّ بما يُكافَأُ به لاعب كرة قدم عن أسبوع فقط من اللعب. بل إنّ من اللّاعبين اليافعين من يوّقع عقدًا مقابل قرن من جوائز نوبل بكل فروعها.

عزاءُ حمَلةِ جوائز نوبل أنّ ما ينفع الناس يمكث في الكرة… الأرضية.

(بين الجدّ واللّعب)

مع أنّ كرة القدم تجمع اللعب إلى الصخب، فإنّ بعض ممارسيها نجحوا في الدخول إليها بهدوء تام ومن باب الجِدّ تحديدًا.

فهذه إيسلندا، شاركت في كأس أوروبا 2016 وكأس العالم 2018 بمنتخب من الأطر العليا، بينها خمسة أطبّاء وطيّار وموسيقي ومُخرِج، وبمُدرِّب يُصرّ على العمل بعيادته لثلاثة أيام في الأسبوع كطبيب للأسنان. أمّا حارس المرمى الذي صدّ ضربة جزاء لميسي، فهو محامٍ، وبذلك تكون إيسلندا هي البلد الوحيد، في تاريخ كرة القدم، الذي امتلك محامي عرين.

وهذا توستاو، لاعب الوسط الهجومي الأعسر، الملقب ببيلي الأبيض، تعرّض لانفصال شبكيّة عينه اليسرى إثر اصطدام كرة بوجهه في منافسات الدوري البرازيلي، فاضطر إلى السفر إلى هيوستن والخضوع لخمس عمليات جراحية أعادت إليها البصر، ونجح في اللحاق بمونديال 1970.

بعد انقضاء النهائي، سافر توستاو إلى هيوستن، وهذه المرّة قصد إهداء طبيبه ميداليته الذهبية كأجمل ردّ للجميل.

توستاو اعتزل في سنّ مبكرة، ولأنّ العزيمة لا سقف لها، فقد تفرّغ لدراسة الطبّ، وتخرّج طبيبًا للعيون.

وهذا، ليس أخيرًا، سقراطيس، المثقف اليساري وقائد أعظم منتخب في تاريخ البرازيل، الذي لم يحترف كرة القدم، عكس توستاو، إلّا بعد أن أنهى دراسة الطب.

من بين كلّ العروض التي تلقّاها سقراطيس من كبار أوروبا، اختار إيطاليا. وحين سئل عن الأمر، ردّ قائلًا إنّه يودّ تعلّم اللغة الإيطالية ليقرأ غرامشي بلُغته الأصلية.

(سيدريك ڤيلاني)

يتمتع سيدريك ڤيلاني برشاقة نجوم كرة القدم ووسامة نجوم السينما، ويتفوّق على هؤلاء وأولئك بامتلاكه لعقل جبّار استحقّ عنه وسام فيلدز، وهو بعد في السابعة والثلاثين من العمر. فأصبح بذلك الناطق الرسمي باسم مجتمع الرياضيات الفرنسي، كيف لا، ووسام فيلدز للرياضيات يعادل جائزة نوبل في سواها من التخصّصات.

في أوج لمعانه، حلّ سيدريك ڤيلاني ضيفًا على جامعة القاضي عياض. وفي الوقت الذي كان يحاضر في المدرّج حول الهندسة التفاضليّة والفيزياء الإحصائيّة، كان أحد عناصر دكّة البدلاء في ريال مدريد يُنعش قدميه بمياهِ أوريكة.

المُفارقة المُضحِكة حدّ البكاء، هي أنّ الإعلام ترك رأسًا أساسيًّا في المدرّج بالقلب من مراكش، وسافر إلى نواحيها لتغطية أقدام احتياطية في الوادي.

عقب تلك الزيارة، زيارة ڤيلاني لمراكش، أيقنتُ أنّه حتى لو كان فيثاغورس بجلال قدره قد نجا من الحريق، وعبَرَ حقل الفاصولياء الشهير، وقفزَ على الأزمنة، وتنازلَ عن شعار الصّمت، وحلّ بصخَبِ جامع الفنا، لَما انتبهَ أحدٌ لوجوده بيننا.

(ساحة غينيس)

لأزيد من خمسين ساعة متواصلة، تحوّلَت السّاحة إلى شهرزاد من صمت وهواء، تصغي إلى شهريارات العالم وهم لا يكفّون حتى وقد أدركهم أكثر من صباح. فدخلت بذلك كتاب غينيس للأرقام القياسية، هي التي أُدرجت قبل سنوات، بمساعٍ نبيلة من خوان غويتيسولو، أحد أبنائها الأَخْياف، تراثًا إنسانيًّا لا ماديًّا من طرف اليونيسكو، فشَكَلَت هكذا موضوعَ الشّفاهة شكلًا تامًّا.

هذا الحدث شهدته ساحة جامع الفنا، خريف هذا العام، بمناسبة المهرجان الدولي الثاني للحكاية.

رقم قياسي عالمي لساحة عالمية في مدينة عالمية هي الاسم الأصلي للبلد… ومع ذلك، لا خبر. وكأنّ على الساحة أنْ تحكي حكايتها بنفسها، حكاية بعنوان: خمسون ساعة وساعة.

ولنا فقط أن نتساءل:

ماذا لو كانت ساحة جامع الفنا ملعبًا كبيرًا لكرة القدم؟

وماذا لو تعلّق الأمر، وقد تعلّق سابقًا، بكتاب غيريتس للرواتب القياسية؟

(لوكليزيو)

في عام الفوت هذا، حلّ بمراكش ضيف من عيار 24 قيراط: لوكليزيو.

زيارةُ الرجل للمدينة، بصرف النظر عن مناسبتها، حدثٌ في حدّ ذاته، فما بالك بمساهمته في مهرجان الكتاب الإفريقي، الإفريقي وليس الفرنسي، بأشهر ساحة في البلد.

لوكليزيو، هنا والآن، كان فرصة للإعلام المغربي كي يتسلطن، وقد اجتمعت له في الرجل الذرائع والأسباب. فهو ليس فقط أحد حمَلة جائزة نوبل للآداب، وإنّما أيضًا صاحب أهم كتاب عن الصحراء، كيف لا وهي حَمَاتُه التي أنجبت له من رحمها في الساقية الحمراء رفيقتَه في الحياة والكتابة: جميعة.

على ذكر الصحراء، ينظّم المغرب، مرّة كلّ سنة، مباراة في كرة القدم في أحد ملاعب أقاليمه الجنوبية، فيحتشد لها الإعلامْ بالكاميرات والأقلامْ، ويتّخذ منها الذريعة والدريئة…

زيارة لوكليزيو التي قد لا تتكرّر، كانت مناسبة لهذا الإعلام تحديدًا كي يوجّه الرسائل تلو بعضها إلى حيث تشير بوصلة الأحداث في غير ما سياق. سوى أنّه، بكلّ أسف، لم يفعل، ففوّت على مغناطيسه مُصالحة الذهب.

(غيض وفيض)

ثمّة مغربٌ يلعبْ

وثمة مغرب يكتبْ

فللمغرب أقدامٌ وأقلامْ.

عَقِب كلّ تظاهرة قارّية أو استحقاق عالمي، يظهر اسم هذا اللّاعب المغربي أو ذاك في هذه التشكيلة أو تلك، فنفرح لأجله كلّ الفرح، وكأنّه نحن جميعًا. أمّا إذا كان على المغاربة أن يصوّتوا لفائدة لاعب مغربي ما كي ينال جائزة معيّنه، فإنّهم يفعلون بهمّة من سيفوز شخصيًّا…

وبين عام وآخر

يفوز هذا الفريق

أو ذاك المنتخبْ

بكأسٍ أو لقبْ

وهذا غيض من قدم اللّاعبْ

فماذا عن فيض قلم الكاتبْ؟

أمّا لماذا فيضُ هذا وغيضُ ذاك، فلأنّ للكتّاب المغاربة، أيضًا، صولاتٍ وجولاتٍ في ميادينهم، يحفرون بها اسم البلد عميقًا في تاريخ الأدب والفكر. ولعلّ جردًا سريعًا للجوائز والتّكريمات الدولية والعربية التي حازتْهَا أقلامُنا، في أكثر من فرع وبأكثر من لغة وفي مختلف الجغرافيات، أن يعطي فكرة واضحة عمّا أذهب إليه. ذلك أنّ عددها في سنوات قليلة يساوي عشرات أضعاف ما جنَتْه كرتُنا من كؤوس وألقاب طيلة تاريخها الطويل.

ليس عزاءُ الكُتّاب فقط في كون الأقلام أذكى من الأقدام، وإنّما كذلك في كونهم لا يعتزلون، شأن لاعبي كرة القدم في سنّ مبكّرة، ومنهم حتى من يعمِّر، أبدَ الدّهر، بعد رحيله.

(التشكيلة)

ولو جاز للأقلام أن تحذو حذو الأقدام في إعلان تشكيلتها المثالية لكلّ سنة، دوليًّا، قارّيًا، أو حتى وطنيًّا فقط، وجنّدت لذلك لجانًا لا يرقى إليها الشّك، لوجدَتْ صعوبة عظمى في ذلك، ولما حظيت اختياراتها بأدنى إجماع.

ولمّا كنتُ لا أبرح مراكش إلّا لِمامًا، سأظلّ فيها لهذا الأمر وأقتصر على هذه السنة فقط.

فبِمُراكش: أسرارٌ معلنة، ومراكش التي كانت، ومراكش نوار، وهوت ماروك، وكلّها صدرت في أكثر من طبعة وبأكثر من لغة، فجابَتْ هكذا أطرافَ المعمور، يكون ياسين عدنان قد سَدّدَ للمدينة، كتابةً، ما تقدَّمَ وما تأخّر وما ظهر وما خفِيَ من فواتير. أمّا شفاهةً، فقد كان الرجل، هذا العام، في المركز من دائرتها، دائرة الشفاهة المعروفة بساحة جامع الفنا، وذلك بإدارة مهرجان الكتاب الإنجليزي، كما بالحضور الوازن في مهرجانيْ الحكاية والكتاب الإفريقي. وعلى ذِكْر هذا الأخير، فعرّابُه هو الروائي والفنان التشكيلي المعروف ماحي بينبين.

وعن “سيرك الحيوانات المتوهمة” نال أنيس الرافعي جائزة الملتقى للقصة القصيرة بالكويت، وهي أرفع جائزة عربية لهذا الجنس الأدبي.

أنيس اعتنق القصة القصيرة منذ نعومة أحرفه، ولم يرتدّ عنها أبدًا، فلا يعرف المرء أيّهما مِحراب للآخر. وكما أوسعها تجويدًا واجتهادًا وأغدق عليها من حياته، أوسعته نورًا في محيطه الواسع.

وعن “الرحلة العجيبة إلى الحمراء” فاز عبد اللطيف النيلة بجائزة كتارا لرواية الفتيان، هو الذي راكم، في صمت وبتؤدةٍ، مُنجزًا معتبرًا في القصة القصيرة، وصل ذروته مع “كتاب الأسرار”، المجموعة القصصية البديعة التي أَقترِحها بإلحاح على قرّاء الأدب ونقّاده.

ولمّا كانت مراكش مدينة مسرح بامتياز، إذ في ساحتها تخلّق ذلك المسرح الذي يقتل بالضحك، فمن بين أبنائها الآن من يقدّم مسرحًا يقتل بالجمال، بعد أن صار للضوء والصوت واللباس والسينوغرافيا أدوار رئيسية.

لا هذا ولا ذاك أقصد، وإنّما أرمي إلى هذا النوع من المسرح الذي يحتاج ركحًا مُقعّرًا يعتمل فيه الألم الإنساني لدى الرجل، واسمه الحركي: جيلو، كما لدى المرأة، واسمُها التراجيدي: دنيا.

جيلو ودنيا عملان مسرحيان دشّن بهما طه عدنان ما يجب أن يعرف لاحقًا بمسرح الألم. وهما العملان اللّذان جالا العالم من الدّاوديّات إلى هيلسنكي، مرورًا بغير قليل من الحواضر والعواصم.

مناسبة هذه الإشارة هي أن مجلة “المجلة” العريقة صنّفت مسرحية “دنيا” ضمن أبرز إصدارات هذه السنة.

إذا كنتُ قد سهوت عن هذا الاسم أو ذاك، فالمرجو إضافته حتى بدون حيثيات. أمّا إذا جاز لي أن أضيف، فلا بدّ من السّاحة والدّار: ساحة جامع الفنا ودار بلّارج عن أعمالهما الكاملة.

‫تعليقات الزوار

4
  • ALI NAIT OMAR
    السبت 25 مارس 2023 - 09:30

    عام الفوت ( سابقا ) و عام فات الفوت ( حاضرا ) و مستقبلا بماذا سيسمى ؟

  • Adil scodito
    السبت 25 مارس 2023 - 10:56

    المغرب هو الأصل و الباقي تقليد

  • لسان صدق
    السبت 25 مارس 2023 - 11:11

    كما عودنا الكاتب و الأديب سعد سرحان. اقتناصه للمفارقات التي عز من يلاحظها. لهذا سيظل المثقف الوحيد الذي يقتحم أماكن العتمة التي تحتاج لعين صقر. شكرا للشاعر سعد سرحان على احترامه مداد القلم الذي لا يكتب به إلا كلمات لا تنته صلاحيتها

  • عبدو
    الأحد 26 مارس 2023 - 02:12

    صدقت يا رجل، هذا عام الفوت، ففي أي عام غيره انتصر المغرب على البرازيل، أما أن نقرأ هذا المقال في يوم الانتصار هذا ، فذلك من محاسن الصدف

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42

جدل فيديو “المواعدة العمياء”

صوت وصورة
"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:15

"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا

صوت وصورة
بيع العقار في طور الإنجاز
الإثنين 15 أبريل 2024 - 17:08

بيع العقار في طور الإنجاز

صوت وصورة
مستفيدة من تأمين الرحمة
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:35

مستفيدة من تأمين الرحمة

صوت وصورة
مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:28

مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير

صوت وصورة
تألق المدرسة المغربية لعلوم المهندس
الإثنين 15 أبريل 2024 - 15:55

تألق المدرسة المغربية لعلوم المهندس