النقد السينمائي يكتشف المبدعين ويفضح المدعين ويحرج الطفيليين

النقد السينمائي يكتشف المبدعين ويفضح المدعين ويحرج الطفيليين
صورة: أرشيف
الثلاثاء 16 فبراير 2021 - 05:55

قال دَبشَليم مَلك الهند لبَيْدَبا رأس فلاسفة النقد السينمائي: اضرب لي مثلا بفيلم لنرى مما صُنع.

فورا، طفق الفيلسوف يتحدث بإطناب عن السينما التي صورت المجتمع وعبرت عن قضاياه الوجودية والوجدانية وفلسفة الصورة والمخرجين العباقرة. كان يتحدث عن السينما برمتها كأنه يعرفها كلها من غير أن يضرب مثلا بفيلم واحد.

لماذا؟ لأن المتحدث يتحرر في عموميات المادة الواسعة، ولا يرهق نفسه بالأسئلة المحددة والأمثلة المحددة؛ لأنه لم يتعود على الدقة. تعرض السينما زمنا مشدودا متوترا، ولا يليق الكتابة والحديث عنه بحشو وإطناب.

تنشر مقالات عن السينما تشبه هذه الفقرة “إذا غمرنا فيلما (لا تذكر لا نوع ولا محتوى اللقطة ولا اسم الفيلم) على شكل مكعب مثلًا مساحة سطحه العلوي والسفلي (س)، وارتفاعه (ع)، في أي سائل بكثافة (ث)، وكان مقدار غوصه إلى عمق (ل)، وبالتالي فالقوة المؤثرة على السطح السفلي… تُسمى بقوة الطفو الفيلمي”.

شعر دَبشَليم والجمهور بالضجر؛ لأن مهمة النقد السينمائي في مقالة أو مداخلة من عشرين دقيقة هي تحليل فيلم على أمل استيفاء الموضوع حقه.

لتحقيق ذلك، لا بد من التركيز على ما تعرضه الشاشة. يقول جان كوكتو: “السينما هي الكتابة الحديثة التي حبرها الضوء”، والنقد السينمائي هو التفاعل مع هذا الحبر.

يعرض حبر الضوء عملا فنيا مؤلفا ومركبا. مؤلَّف أي “متكون من أجزاء عديدة” موسوعة لالاند ص 190. فيه عناصر عديدة. ما هي؟

هيا لنستعيرها من جوائز الأوسكار التي تحدد الحرف السينمائية وتكافئ المبدعين، صناع الفيلم، إنها:

السيناريو، أصلي أو مقتبس؟ التمثيل أساسي وثانوي، لباس الممثل ومكياجه. الإخراج تقليدي أو حركي؟ التصوير، الإضاءة وموقع الكاميرا. المونتاج تراكمي أم تركيبي؟ الموسيقى والمؤثرات الصوتية والبصرية…

من هذه الجوائز يظهر أن الفيلم ليس قضية فلسفية مجردة، إنه متن بصري ملموس أولا ويمكن تأويله فلسفيا؛ لكن دون القفز على ماهيته الفنية. من هذه الجوائز يظهر أن الفيلم هو ملتقى فنون عديدة، وهذا ما يجعل نقدها أكثر تعقيدا.

النقد هو محاكمة المعرفة الجمالية والشعورية بمقياس المعرفة المنطقية العقلية. يفترض أن يعرف الناقد الروائي كيف تكتب الرواية، وأن يعرف الناقد السينمائي كيف تصنع الأفلام.

تلك مكونات تتمازج ولا تتجاور فقط يربطها حرف العطف. الفيلم نص يقرأ ويحلل ويفكك التحليل، هو فعل بعثرة ما هو مجمع ومركب. الفيلم مركب من عناصر متباينة تدمج في عمل فني واحد يضاعف تأثيرها، كما يقول الرياضيون عن الأعداد المركبة التي يحكمها قانون تكاثري (موسوعة لالاند ص 189)، وكذلك مكونات الفيلم؛ فتركيبها المعقد والمتفاعل يكثف قوتها الدلالية والعاطفية. يمكن لصوت أو حركة كاميرا يرافق نظرة شخصية أن يمنحها دلالات وأثرا أكبر. مثلا في فيلم “الراهبة” (2018 للمخرج كوران هاردي) يحط غراب على صليب. يتولد المعنى ثالث من العنصرين. هنا تتحقق استعارة واحد زائد واحد تساوي ثلاثة في الفن. مثال مضاد: لو صوّر فيلم مغربي غرابا يحط على هلال فوق مسجد لأثار ذلك جدلا.

هكذا، فبدلا من مناقشة كل السينما دفعة واحدة لا بد من التركيز على مثال محدود من فيلم. السؤال المحدود هو مناقشة جانب فرعي مثل مناقشة الإخراج أو التمثيل أو السرد أو الزمكان…

وهذا يشبه المنهج الاستقصائي في علم الاجتماع؛ وهو ما شرحه السوسيولوجي المغربي عبد الله حمودي في محاضرة بعنوان “سؤال المنهج في راهنيتنا”، ضمن فعاليات المؤتمر السنوي السابع للعلوم الاجتماعية والإنسانية بالدوحة في شهر مارس 2019. وقد أكد فيها ضرورة الانطلاق من أسئلة محدودة، من أمثلة محدودة لاستخلاص أفكار تناقش، وهذا أفضل من العموميات في مادة مستفيضة. هذا المنهج هو خيط رابط بين الكتابة في مجالات عديدة؛ منها النقد السينمائي.

واستشهد حمودي بقول عبد الله العروي بأنه “لا بد من منهج؛ وإلا فإن تساؤلاتنا ستبقى خطابا إيديولوجيا، لا هو ينتج مادة جديدة ولا هو ينتج معرفة”.

إن المنهج يصنف. يسهل التصنيف تدبير ركام المعلومات. لذلك، طالب حمودي بمنهج أولا ينتج باراديغما ـ إطارا نظريا، وثانيا يوفر مفاهيم ومصطلحات متراصة، وثالثا يوفر مسافة نقدية في الملاحظة والتشخيص والتوصيف والتنظير والاستنتاج في التعامل مع ما هو حميمي.

على صعيد الباراديغم المنهج هو طريقة لتجاوز فخفخة الكلام وتضخيمه في فقاعات لا محتوى فيها. حين يغيب المنهج يهيمن البريكولاج والذوق. “الذوق سمة عامية للتقديرات الفنية لدى الفرد” لالاند 469 المنهج ليس سمة عامية، إنه سمة خصوصية نخبوية.

على صعيد المصطلحات، هل يمكن التفكير بدون مفاهيم؟

لا. لذلك، لا بد من قاموس بصري معاصر، ومعجم يدعم الوحدة الداخلية للمقاربة الكتابة بلغة حديثة لا أثر فيها لرائحة الفقه ومعجم الشعر القديم واستعاراته وتعابيره المسكوكة؛ من قبيل لا مشاحة أن بطل الفيلم كان يمارس الرذيلة. هذا تعبير ملائم حين يصدر عن فقيه لا عن ناقد.

المنهج ضروري لكتابة نقد دقيق يثمر معرفة. النقد ليس بمعنى القدح بل بمعنى تعرية الفرضيات الدفينة.

ختاما، هذا مثال تاريخي: كيف يمكن للنقد أن يخدم الفن؟

الجواب كما خدم كارل ماركس النظام الرأسمالي بنقده.

كان أشرس نقد هو الذي كتبه ماركس ضد الرأسمالية والبرجوازية حين هب ريح الثورات في 1848. قال ماركس في “البيان الشيوعي” إن الرأسمالية تهيمن على العالم وتستغل البروليتاريا وتنتج سلعا غير مسبوقة، وأن البرجوازية تبني عالما على صورتها.

كان نقد ماركس للرأسمالية للبرجوازيين قاسيا. لذلك، أفاد من وجه لهم. لقد فهموا أن الثورة خطيرة، وأنه لامتصاص الغضب الطبقي يستحسن تلبية بعض مطالب الكادحين دون ثورة. النتيجة أنه في ظرف الثمانية عشر شهرا التالية لعام 1848 توحد الرأسماليون بقوة، فهزموا الحكومات الثورية، واسترجعت القوى المحافظة نفوذها في ألمانيا والنمسا… أصلح النظام نفسه تحت ضربات النقد وبفضلها. فعلا، بنت البرجوازية عالما على صورتها ومقاسها.

هذا نقد لا يرتقي إلى مرتبته أي مدح.

ما هي الخدمة التي يمكن أن يقدمها النقد المُمنهج والصارم للمشهد الفني؟

أولا، يكتشف المبدعين ويدعمهم ويحدد نقط قوة عملهم لتطويرها.

ثانيا، يفضح المدعين ويجبر الطفيليين على التفكير قبل اقتحام مشهد يحتاج فنانين مثقفين لا سماسرة.

النقد ضروري لفرز القمح من الزوان. الزوان طفيلي يشبه القمح؛ لكن لا ثمر فيه وقت الحصاد، والقمح قوي اللب وهو ابن الحقل ويصمد في الزمن.

‫تعليقات الزوار

7
  • رأي
    الثلاثاء 16 فبراير 2021 - 07:40

    لا نحتاج إلى نقذ سينمائي بل نحتاج البحث العلمي

  • عزيز
    الثلاثاء 16 فبراير 2021 - 10:05

    تدهور الثقافة عندنا هو تفشي الجهل وعدم الثقة فيما هو حكومي او خطاب رسمي….. لذلك فالتفاهة حلت مكان الثقافة…… لذلك فالمواقع التي تنشر الفضائح والتفاهات اكثر مشاهدة من المواقف التي تنشر معلومات علمية وثقافية….. الدولة استثمرت في الجهل اكثر من الوعي…… حفاظا على امنها….. فثورة الجهال اقبح من ثورة المثقفين…

  • احمد منصور ( انا غلبااااان
    الثلاثاء 16 فبراير 2021 - 12:01

    حتى عراق آيدول هرب وهاجرَ من العراق !

    إذا لم يكن السبب سياسي ولا طائفي ولا مذهبي ولا ديني ولا اخلاقي ولا اقتصادي ولا فني فماهو إذاً ! والله سؤال مُحيّر !. راح نتصل بصديق ليخبرنا بذك !
    إتصلتُ بأكثر من صديق لإيجاد الجواب على تساؤلي هذا وكان رد الجميع : عدم الاحراج رجاءاً .

    نيسان سمو الهوزي

  • متتبع
    الثلاثاء 16 فبراير 2021 - 12:09

    اريد أن أعرف شيء واحد هل يتم بيع هذه الأفلام للدول الأجنبية ام يتم استنزاف مال الشعب فقط.

  • Omar
    الثلاثاء 16 فبراير 2021 - 12:50

    في رأيي فان النقذ بكل انواعه و بالخصوص السينمائي منه ما هو الا استيلاء على اعمال الآخرين ذون ان تكون لك علاقة بالفعل السنمائي لا كتابة و لا اخراجا و لا تمويلا و لا تمثيلا و لا حتى نجارة و كهربة…مجرد قلم في الجيب و كاس قهوة مر على ناصية مقهى ثم هيت لك من تمزيق او ترقيع او رفع او خفض حسب الظروف لاعمال سنمائية اغذق عليها اصحابها الكثير من الاموال و الافكار و الجهد و الابداع…يمكن ان استمع لمتفرج اقتنى تذكرة و تفرج على فيلم و لا اقبل بمن ينصب نفسه حكما على مجهود الآخرين و هو ابعد ما يكون عن العمل ككل ..

  • Cinawal
    الثلاثاء 16 فبراير 2021 - 18:36

    Le plus grand des opportunistes c’est toi meme avec tes film marche aux puces qui n’ont rien de cinematique et aussi soit disant critic du cinema, incroyable. Nous voulons de la recherche scientifique, le vaccin, cinema la tousmino wa la tourni mn jou3

  • متتبع لهسبريس
    الثلاثاء 16 فبراير 2021 - 21:53

    الامر اكبر واغمق مما نعتقد فالسينما او الثقافة الان اضحت صناعة ومن تم اضحت لقمة عيش وفرص عمل اي الفليم السينمائي او الكليب الغنائي او حتى الفرق الموسيقية بقيادة مغني اضحت مقاولة وهذا المنتج او ريس الفرقة هو المقاول ومن ورائه عمال .. فهكذا امور ان سطت بها التفاهة من حيث المظمون الثقافي والفني الا ان المضمون المعيشي موجود وكلنا نعلم متى كثرت التفاهو لابد ان يكون من بينها العمل الجيد والعمل الجيد به عمق وثقافة الفاس فود لاتتلاق والجودة بل فقط انجز العمل وتقيد بما هو سائد وطاغي عالميا لان الثقافة المحلية الان لا يمكن ظبطها نظرا للتداخلات والثانيرات والمؤثرات الخارجية .. ما يراه البعض انه تفاعة اراه ا من وجهة نظر اخرى تبدو شادة لكنها هي الواقعية هذا المنتج التافه ان قام باتجاو عمل وشغل مجموعة من الناس وسد حاجياتهم الضرورية في حدها الادنى اراه فاعلا يستحق التشجيع ليس القصوى لانه يتعامل مع الثقافة بمنطق السوق ومنطق العرض والطلب المهم انه حرك العجلة .فالظروف العامة العالمية لا تساعد على الجودة خاصة ان نظرنا للامر م وجهة نظر خاصة في غياب او بخل حد التقشف دور الدولة كحارس المحراب

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب