"الاستثناء" الذي يؤكد القاعدة

"الاستثناء" الذي يؤكد القاعدة
الجمعة 3 يوليوز 2020 - 06:23

طفل ينوح ويصيح، مشاداة جسدية بين رجال الشرطة وشخص يحاول التملص من قبضتهم. تدافع وسب وشتم بلكنة مغاربية. يظهر شخص يحاول التدخل ليخلص الرجل من قبضة الشرطة، بينما شرطي آخر يقف أمامه محاولا ثنيه من الاقتراب. أشخاص بزي أمني يصلون مهرولين إلى المكان. تمت السيطرة على الرجل ووضعت على يديه الأصفاد وتوارى عن الانظار. يزداد صراخ الطفل. ثم يتعالى صوت رجل: “ما هذا التصرف؟ لم يقم بأي شيء يستدعي تعاملكم الغريب هذا!” مجموعة من المارة يتابعون المشهد، منهم من استسلم للفضول ووقف يعاين عن قرب. يعود نفس الصوت مخاطبا الشرطة: “فقط أريد أن أعرف أي ذنب اقترفنا؟ نحن لسنا مجرمين، نحن أناس محترمون. حتى قنينة الماء التي كانت في حوزتنا وضعناها في كيس لنحافظ على نظافة المكان”. يظهر رجل أسود البشرة على الصورة، متحدثا بدوره إلى الشرطة: “أنظروا لقد صدم الطفل بسبب تعاملكم اللاإنساني مع أبيه”. يتزايد الاحتجاج وتتداخل الأصوات. تظهر شرطية في وضع غير مريح، وهي تحاول إشهار ابتسامة عابرة في وجه الطفل الصغير في محاولة لتهدئة روعه. الكل يؤثث مشهدا لصورة غير مطمئنة لشرطة وجدت نفسها في وضعية حرجة، وهي عاجزة عن تقديم أجوبة، وسط أجواء طبعها التشنج والارتباك والحيرة.

المشهد هو مقطع فيديو يظهر توقيف الشرطة البريطانية لشخص من أصول مغاربية رفقة أقربائه، في ظروف يبدو من خلال طريقة الاحتجاج أنها غير طبيعية.

سيدة ذات بشرة سوداء تتناول الكلمة: “أود أن أخبركم، وأخبر الزملاء والزميلات، أنني كنت ضحية عنف من قبل الشرطة البلجيكية. وليس لهذا الحادث من عنوان سوى أنه فعل تمييزي بنزعة عنصرية. بالأمس وأنا أغادر محطة القطار الشمالية، شاهدت تسعة من رجال الأمن وهم يتحرشون بشابين بسحنة سوداء. أخرجت هاتفي وأخذت صورة للمشهد. وهو ما لا يعد مخالفا للقانون. بعدها مباشرة، توجه نحوي أربعة من رجال الأمن، نزعوا مني هاتفي وحقيبتي اليدوية وألصقوني بعنف ضد الحائط، ثم شرعوا في تحسس جسدي وساقي متباعدتين، بطريقة مهينة وهادرة للكرامة. وفي حوزتهم كل الوثائق لإثبات هويتي: جواز سفري، بطاقة إقامتي وشارة عملي حول عنقي. اليوم وضعت شكاية لدى المصالح المختصة. لأنه لا يمكن بتاتا أن نقبل باستمرار هذه الممارسات العنفوية الأمنية. لذلك وجب اتخاذ تدابير عملية آنية ضد هذه السلوكات، التي يقع ضحيتها العديد دون أن تتاح لهم الفرصة لتناول الكلمة أمامكم”. تعالت التصفيقات وسط البرلمان الأوروبي أمام تأثر المتحدثة وتقدم زميلة لها لمواساتها وهي تذرف الدموع جراء الإهانة التي تعرضت لها من طرف الشرطة البلجيكية، حسب روايتها.

Pierette Herzberger والمتحدثة هي ألمانية، بجدور إفريقية. إنها ، عضو البرلمان الأوروبي. Fofana

حادثان متزامنان، اختلف فيهما المجال، واجتمع فيهما نفس السجال. استسلم الحارس الأفرو-أمريكي جرجس فلويد لركبة الشرطي ديريك، واهتزت أمريكا ومعها العالم إدانة وشجبا واستنكارا. وعاد النقاش ليطفو على السطح، واشتعلت المنابر سجالا وهي تتعرض للتمفصلات المتعددة، والتمظهرات المختلفة لأشكال التمييز والنزعة العنصرية. بل وعمت الفوضى المدن. وغرد مسؤول أمريكي: “حرق مدينة أمريكية كاملة لن يرجع جورج فلويد إلى الحياة”، ليرد عليه مواطن أمريكي: “تماما كما تفجير الشرق الأوسط لن يصحح حادثة 11 شتنبر”. مات فلويد، لكنه أحيا نقاشا ظنه الكثير متجاوزا ومستهلكا بل وفكرا ماضويا. حيث كشف الواقع معاشا رهيبا، تخفي واجهاته المزركشة، وآخر صيحات ألواحه الرقمية المثيرة، وشعاراته الرنانة، مشاهد لن يصح القول على أنها معزولة. كونها أصبحت قاعدة وليست استثناء. أو ربما الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.

“لا أستطيع التنفس” (I can’t breathe) كانت آخر جملة تفوه بها فلويد بعد تكرارها مرات عدة. وقبلها عند مطلع السنة الجارية، ردد رجل التوصيل ( le livreur) الفرنسي Cedric Chouviat, البالغ من العمر 43 سنة، عبارة “إني أختنق” (J étouffe) سبع مرات قبل أن يصاب بلعومه بالكسر و يلفظ أنفاسه الأخيرة، يومين بعد تعنيف الشرطة الفرنسية له، خلال نقطة للمراقبة الطرقية على Quai Branley بباريس. على مقربة من متحف Quai Branley الشهير للفنون والحضارات الإفريقية والآسيوية والأقيانوس والأمريكيتين، والذي يفوق عدد زواره العشرة ملايين سنويا. فارق Cedric الحياة تاركا وراءه أرملة وخمسة أيتام صغار.

“إنني أتحمل كامل المسؤولية على هذه الأخطاء! وتبعا لذلك أضع كان هذا تصريح لقائد الشرطة Chris Magnus استقالتي” بولاية أريزونا الأمريكية عقب نشر فيديو يظهر فيه شرطيان وهما يثبتان وجه شاب هيسباني على الأرض ويديه محكمتان وراء ظهره. الشاب ذو السابعة والعشرين سنة، يقاوم ويصيح في محاولة للإشارة إلى أنه لا يستطيع التنفس متوسلا جرعة ماء. بعد دقائق معدودة خمد الصياح والصراخ. وخمدت معهما أنفاس Carlors Ingram Lopez في صفوف رجال السلطة جراء الحادث الذي يعود إلى شهر أبريل الماضي، فقط بعد تداول شريط الفيديو الفاضح لممارسات لاإنسانية للشرطة الأمريكية.

وقائع متعددة ومتكررة لمشاهد عدوانية يكشف عنها رجال الشرطة في بلدان طالما تبجحت بالديمقراطية، وأطلقت العنان للدروس والأستاذية في الحقوق والإنسانية. توعدت، وهددت وأرهبت وهي تندد بالممارسات التمييزية، عنصرية كانت أم حقوقية. وأصبحت تقاريرها المنجزة من المؤسسات التابعة لها، أو المتحكم في خيوطها، تشهر البطائق الصفراء والحمراء في وجه من أشارت إليه الأصابع العشواء.

وحتى الأطفال لم يسلموا من الحقد الدفين على اللون والعرق والهجين: طفل في ربيعه التاسع، يمنع من ولوج أحد المطاعم بمدينة أمريكية. السبب: بذلة رياضية غير لائقة بالمكان. إلى هنا لا بأس، يمكن أن نتفهم الأمر ونمتثل لقواعد اللباس. لكن الغريب أن الزجاج الشفاف بداخل المطعم لم يستطع حجب طفل في نفس العمر، وبنفس البذلة الرياضية. فرق واحد فقط يميزهما: لون بشرتهما. تساءلت الأم لماذا؟ تلعثم المدير، تعثر لسانه وأتلف بيانه. شاعت الصورة، وبعدها جاء الاعتذار وأعفي المدير.

علق أحدهم على الأعمال العنصرية في الدول “الديمقراطية” قائلا: “أكيد أننا لا نعيش في بلداننا جنة حقوقية، لكننا على الأقل نعيش في جنة إنسانية رغم إكراهاتها وعناد واقعها”، هناك من اتفق وهناك من اختلف. ثم أضاف: “من الخطأ أن تكون الأمور الأكثر أهمية تحت رحمة الأمور الأقل أهمية”. وهنا طبعا اتفق الجميع. لكنني وجدت نفسي أنزع إلى الاختلاف، فقط في السهو عن تحديد معنى الأمور الأكثر أهمية” توخيا للوضوح ورفعا للبس فقط! أعجبتني كثيرا حكمة يرددها بعض إخواننا الأفارقة: “نثير ضحككم لأننا مختلفون، وتثيرون ضحكنا لأنكم كلكم متشابهون”. وكما عبر عن ذلك، وبكل جمالية، الحكيم والفيلسوف الكولومبي Nicolas Gomez Davila:” يتضايق العنصري لأنه يخشى أن تتساوى الأعراق، وينزعج المعادي للعنصرية لأنه يخشى من أن لا تكون الأعراق متساوية”. إذن، وفي الأخير، هي مسألة تتعلق بـ “المساواة” التي هي من صنع الله، لأن “التمييز” من صنع البشر. فالله خلق قاعدة، ومخلوقه يصر على خرقها ليخلق الاستثناء. كما تجسد ذلك المشاهد التي ساقتها لنا الصور، في دول “ديمقراطية” غير عادلة حتى في الظلم، على حد تعبير القول المأثور “المساوات في الظلم عدل”. لكم التعليق!

‫تعليقات الزوار

8
  • aleph
    الجمعة 3 يوليوز 2020 - 07:39

    كتبت وأبدعت.

    نحن مجتمعات، ومن المحيط إلى الخليج، تنخرها أمراض كثيرة وعلى رأسها داء العنصرية والطائفية والقبلية.
    نحن لسنا أفضل من تلك المجتمعات الغربية، فالعنصرية والطائفية متجذرة فينا وفي أعماق أعماقنا. نحن مجتمعات في حاجة لتوعية بحقوق الإنسان وبقيم المساواة والعدالة وآحترام الإختلاف.

    يجب علينا كمجتمعات أن نتغير، أن نرقى بسلوكنا وأفكارنا، أن نكون حضاريين إنسانيين، نقدس إنسانية الإنسان. أن نضع إنسانية الإنسان في علياء السماء.

    هذه الكتابات الراقية شكلا ومضمونا لبنة مهمة على درب بناء مجتمع مغربي إنساني متحضر. شكرا دكتور.

  • زينون الرواقي
    الجمعة 3 يوليوز 2020 - 07:40

    في الدول الدكتاتورية يوفر زي الشرطي وما يرافقه من اكسسوارات إظهار القوة باسم القانون الفرصة لممارسة السادية الكامنة في الأعماق في اطمئنان تام من المحاسبة ومن رد الفعل الجسدي من طرف من ساقته الاقدار لتمارس عليه هذه السادية .. وفي الدول المتقدمة يوفر الزِّي والأصفاد والسلاح والسيارة الاستعراضية بأضوائها وألوانها الأجواء المثالية لتدفق عنصرية الرجل الأبيض التي يخشى إظهارها دون توفر مظاهر القوة هذه المستمدة أصلاً من القانون الذي يفترض ان يحمي الجميع لا ان يمكن البعض من التغول والاعتداء على الأخر وهنا يتفوق شرطي البلاد الديمقراطية على نظيره في الدكتاتوريات من حيث ان كلاهما يمارس ساديته في مأمن غير ان الأبيض يضيف اليها العنصرية التي لا تحرك زميله المتخلف ليلتحق به في ركب التخلف في نهاية المطاف اذا اعتبرنا ان التقدم ليس تمظهرات مدنية مادية فقط بل سلوكات واخلاق ونظرة راقية للعالم بما فيه ومن فيه واعتبار توفر القوة أمانة يرتهن استعمالها الى اعلى قدر من التحكم والحكمة والردع الذاتي قبل ردع الأخر وإلا فما الفرق بين ما شاهدناه في شريط مينيسوتا وبروكسل ولندن وما تظهره أشرطة شرطة الهند إو شرطة حزب البعث على عهد صدّام وهي تجلد من وقع بين يديها ؟
    تحياتي أستاذ اوزين …

  • المساواة في الظلم...
    الجمعة 3 يوليوز 2020 - 09:06

    الأستاذ حاول استقراء شريط فيديو من بين الأشرطة التي أصبحت تعج بها وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيام بعد مقتل أمريكي من أصول الملونين الأفارقة على يد الشرطة وما واكبها من حملات احتجاج في أنحاء العالم منددة وشاجبة ومستغيثة… هذا موضوع قديم وجديد،لكن تغول اليمين العنصري المتطرف وإمساكه بمقاليد الأمور في بعض الدول..أعاد موضوع العنصرية والعرقية إلى الواجهة ،وحتى الشعوب الأوروبية صارت تهاب احتكاكها بهؤلاء القادمين من وراء البحار،فتكونت لديهم عقدة phobia الأجنبي الذي قد يذهب يوما بهويتهم أو يشوهها تحت عجلات العولمة والرقمنة ،

  • سولوه
    الجمعة 3 يوليوز 2020 - 13:39

    العنصرية في اعتقادي في جميع المجتمعات.يبقى اللي كيحشم او فيه خوف الله.

  • كازا
    الجمعة 3 يوليوز 2020 - 16:25

    العنصرية مرض قديم والمجتمعات التي لم تحاربها، ينطبق عليها مثل من أراد تجفيف ماء المطر بالكراطة، إذ أن العنصرية داء وبيل وأن يتم الاستخفاف بها لدرجة كبيرة، تنتشر بإيعاز من السلوكات الغير السوية تجاه الضحايا.

  • زينون الرواقي
    الجمعة 3 يوليوز 2020 - 20:08

    العنصرية أن تكره وتتفادى عنصراً غير العنصر الذي ينتمي إليك وتنتمي اليه .. تسمى بالفرنسية racisme وهي أكثر دقة لأنها تتجه رأساً الى العرق la race لتقابلها ترجمتها الصحيحة التي تعني العرقية .. وهذه لا تعني الأجنبي الدخيل على البلد بل نفس المواطن من عرق مختلف .. ثم تأتي مسألة الخوف من الأجنبي وكرهه ولو كان من نفس العرق وهي الكزينوفوبيا la xénophobie هذا الخليط الذي يترواح بين العنصرية والعرقية والكزينوفوبيا قد يتجلى منفردا وكل حالة على حياد في بلد ما أو قد يكون مجتمعاً في مكان أخر وهو في نهاية المطاف يكشف مدى علّة النفوس وتقوقعها وخوفها على الذات والهوية كما تعبر عنه النزعة المستحدثة التي تسمى بالهوياتيين les identitaires كطبقة برزت هذه المرة في صفوف النخبة المثقفة التي تؤسس كراهيتها للآخر على ما تراه حقائق ونظرة توقعية للمستقبل حيث ستندثر الهوية وبالتالي العرق .. هذه النخب أخطر بكثير من عنصري عادي اذ تعمل من خلال التنظير على بث وأشاعة الرعب من الاندثار لتظهر نظريات من قبيل le grand remplacement التي ألهمت سفاح نيوزلاندا الذي قتل العشرات من المصلين بدم بارد وهو يستمع لموسيقاه المفضلة بمدينة كريست تشرش العام الماضي ولا يزال العديد من منظري نظرية الرعب من حلول الأجانب مستمرون في الترويج لذلك على رأسهم البغيض إريك زمور وكارولين فاوست بفرنسا ثم أوسكار فريتزينيغر النائب البرلماني بسويسرا وكثيرون غيرهم أصبحوا نجوم البلاطوهات المسموعة والمرئية بدول أروبا ..

  • moha
    الجمعة 3 يوليوز 2020 - 20:31

    Chez nous; les citoyens de couleur de peau noire n'ont pas eu accès aux hauts degrés de l’état; jusqu’à présent aucun ministre, ni secrétaire d’état, ni directeur d'etablissement publics noirs..il y a quand même des parlementaires….
    Des scènes de tortures policières sauvages et criminelles sont orchestrées quotidiennement ou presque par la police israélienne, devant tout le monde "démocratique et libre". Il est remarqué que chaque fois que Israël commit une atrocité des télés européennes et américaines programment des émissions et films évoquant le massacre des juifs en 2e guerre mondiale ou des films dits historiques bible, dix commandements entre autres

  • مول الكراطة
    السبت 4 يوليوز 2020 - 10:08

    كيف لمن بدد الملايير من أموال الشعب المغربي لما كان وزيرا للشباب و الرياضة من التكلم على الإنسانية….هزلت

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42 8

جدل فيديو “المواعدة العمياء”

صوت وصورة
"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:15

"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا

صوت وصورة
بيع العقار في طور الإنجاز
الإثنين 15 أبريل 2024 - 17:08 4

بيع العقار في طور الإنجاز

صوت وصورة
مستفيدة من تأمين الرحمة
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:35

مستفيدة من تأمين الرحمة

صوت وصورة
مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:28 8

مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير

صوت وصورة
تألق المدرسة المغربية لعلوم المهندس
الإثنين 15 أبريل 2024 - 15:55

تألق المدرسة المغربية لعلوم المهندس