"الدركي" ولعنة العشرين

"الدركي" ولعنة العشرين
الأحد 14 يونيو 2020 - 08:28

باغتتني بسؤال: “بابا شنو هو أصل كلمة “دركي” في العربية؟ في الفرنسية “gendarme” باين الأصل “gens d’armes” أي رجال السلاح”. أجبتها: ومن يدري أن أصل الكلمة الفرنسية من أصل عربي؟ نظرت إلي مستغربة وقالت: بنيتك! ضحكت لردها وأجبتها: كما استطعت أن تستشفي الأصل الفرنسي يمكنك القيام بنفس التمرين وربما سيظهر لك الأصل العربي. أخذت بعض الوقت ثم رفعت رأسها حائرة لا مابانش ليا. “جند الدار” أليست أقرب؟ ابتسمت وردت: بحال Shakespeare ومن يدعي أن الأصل هو الشيخ زبير. أما “الدرك” فتعني “اللحاق” ربما لمطاردة واللحاق بالخارجين عن القانون.

طيب ما سياق سؤالك هذا؟ ردت: سمعت المذيعة تتحدث عن “دركي العالم”، في تقرير حول الأحداث في أمريكا. هنا انتابتني فكرة. خاطبتها، ما رأيك في تمرين بسيط سأمليه عليك، فقط عليك ملء الفراغ بوضع اسم المكان واسم المخاطب. سأمهلك بعض الوقت بل أطلب منك أن تستعيني بأصدقاء لك. إنه تمرين سهل ولا يحتاج إلى الكثير من الجهد. ترددت، لكنها استسلمت أخيرا للفكرة.

“أريد أن أقول لكم شيئا عن مجريات الأمور في…… إننا مستمرون في مراقبة الأوضاع عن قرب، وجد منشغلين للجوء الشرطة والقوات الأمنية……. إلى استعمال العنف ضد المتظاهرين، وندعو الحكومة…… لبذل كل مجهوداتها لوقف تدخل القوات الأمنية. هذه الاحتجاجات هي دليل على التظلمات التي يشكو منها المجتمع…… والحكومة…… يجب أن تستوعب أن اللجوء إلى العنف لن يمكن من التخلص من هذه التظلمات”.

كان التمرين سهلا وفي المتناول، بحكم السياق وما تعرفه أمريكا من حراك واحتجاج تحت شعار واحد “لا أستطيع التنفس” عقب وفاة Georges Floyd الحارس الأفرو-أمريكي تحت ركبة رجل الأمن الأبيضDerek Chauvin . المفارقة هي صدفة معاني الأسماء في هذه الحادثة. فالشرطي المتهم يحمل اسما رهيبا Derek بمعنى “الحاكم على الناس”. وخلال القرن السابع عشر، عرف هذا الاسم بمشنقة بقرية تايبورن Tyburnعلى مقربة من لندن، اشتهرت بتنفيذ أحكام الإعدام على المجرمين. Chauvin أيضا تعني “شوفيني” وهو التعصب للانتماء والتعامل بعنجهية مع كل جماعة مخالفة يصل إلى التحامل عليها، والسعي إلى الحط من شأنها. في المقابل Floyd تحمل دلالة على الرجل الأشيب الرأس، ربما كناية عن النضج والحكمة. أما Georges أو جرجس فتعني “الزارع أو الفلاح”. وقد اقترن هذا الاسم بالقديس الشهيد جرجس خلال القرن الثالث، الذي أخضعه الإمبراطور دقلديانوس لجميع أنواع التعذيب لرده عن دينه، لكن دون أن يفلح في ذلك، بل العديد ممن شاهدوه معذبا اعتنقوا المسيحية.

تماثل غريب بين الأسماء في حادث أغرب. وكأنه سيناريو محبوك في مشهد اختيرت فيه أسماء دور البطولة بعناية. فهل هي الصدفة، أم هي حكمة الأقدار؟

لنعد إلى التمرين. طبعا كما كان منتظرا، كل الفراغات وضعت فيها “أمريكا” و”الأمريكي” و”الأمريكية”. وكأن المخاطب يتوجه بالحديث إلى الإدارة الأمريكية عقب المظاهرات التي كانت بلاد العم سام مسرحا لها. وأكيد أن الكثير منكم سيذهبون إلى هذا الطرح، طبعا بحكم راهنية الموضوع.

والواقع أن الأمر يتعلق بخطاب كاتبة الدولة في الخارجية، السيدة هيلاري كلنتون، في يناير 2011 الموجه إلى الحكومة المصرية إبان الثورة الذي اتخذ من ميدان التحرير رمزا لها.

شاءت الأقدار أن يسري نفس التوجيه اليوم على من كان موجها بالأمس. بل أصرت الأقدار أن يستمع ممثلو الشعب مجتمعين بالكونجرس الأمريكي إلى توجيه ونصح مواطن عادي ليس إلا شقيق الراحل Georges Floyd ، وهو يخاطبهم “ضعوا حدا للآلام! ضعوا حدا لمعاناة السود الأمريكيين! ضعوا إجراءات لمواجهة عنف الشرطة الأمريكية! كونوا قادة تحتاج إليهم هذه الدولة وهذا العالم”. كلمات معبرة وصور مؤثرة قابلها صمت رهيب في مشهد أليم، مذارف سائلة وعيون شاخصة وعقول حائرة.

ما هذه اللعنة التي حلت بدركي العالم؟ هل هي لعنة 20؟ 2020، وبفعل الجائحة سجلت أمريكا أعلى نسب الإصابة والوفيات. الساعة 20:00 ثم إبلاغ الشرطة بالورقة النقدية “المزورة” وهي 20 دولارا. كانت سبب مقتل الأفرو-أمريكي الراحل، وشرارة اندلاع الاحتجاجات في أمريكا والعالم. الساعة 20:20 كان Floyd يتوسل إلى الشرطة أنه لا يستطيع التنفس. 20:27 حضرت سيارة الإسعاف. 21:27 أعلن عن وفاته. وكل هذا يوم 25 ماي 2020.

“غير طبيعي أن يحدث هذا في أمريكا”، كانت هذه تغريدة للرئيس الأمريكي باراك أوباما. وقوله هذا يحمل في ثناياه رسائل ومعان. إنها أمريكا، دركي العالم. وافتراضا، رمز الديمقراطية وسيادة القانون. وحتى معمار عاصمتها لا يفوت فرصة ليسوق هذه الدلالات: شارع الدستور، شارع الاستقلال، النصب التذكاري لمحرر العبيد أبراهام لنكولن، نصب واشنطن موحد ومحرر الأمريكان الرئيس الرمز جورج واشنطن، وغيرها من النصب التذكارية ذات الدلالة التحررية والرمزية الديمقراطية.

ما تعيشه أمريكا اليوم غير مسبوق، مظاهرات سلمية وأخرى عنيفة. فهل هو ربيع أمريكي أسوة بالربيع العربي؟ هناك تماثل كبير بين الربيعين سببه ظلم وقهر. وشرارتهما رجل واحد. الأول أضرم النار في جسده، والثاني استسلم لركبة جلاده. لكن السيناريو واحد، والأسباب واحدة والنتيجة واحدة. غضب وفوضى وغليان واحتجاجات وتظلمات.

مؤشر التوقيت ربما يشكل فارقا حاسما، فهو ليس اعتباطيا. نسبة الأضرار التي لحقت بالجماعات الأفرو-أمريكية بفعل الجائحة من آثار اجتماعية ومن حيث عدد الوفيات، ظهر اليوم كحقيقة طالما أخفتها مظاهر ونماذج الاستهلاك العالية والمتبجحة للمجتمع الأمريكي. سقف المطالب والتظلمات بلغ مستوى إقرار عقد اجتماعي جديد. فاق التنديد بالعنصرية وأصبح يسائل العيش المشترك في أمريكا: حدوده، وسائله، ظروفه وإمكانياته.

شعارات الحملة الانتخابية لأوباما حملت شعارات “أمريكا ما بعد العنصرية”، “أمريكا بلا ألوان”. فهل ما يقع اليوم هدر لكل ذاك التراكم؟ وذاك الزخم وتلك الحمولة؟ أكيد ما يقع اليوم في أمريكا سيكون له ما بعده وما قبله. وأكيد ستخلق بوادر الربيع الأمريكي يسارا جديدا أكثر تقدمية في شأن العدالة العرقية والاجتماعية، بعدما أصبحت لدى الكثير قناعة راسخة، ألا وهي تداعيات الجائحة وفضح “أسطورة النموذج الأمريكي المثالي”.

فهل يصح قول الأديب والروائي المصري يوسف إدريس حينما قال: “إني لمشمئز من حضارة تصعد بسمو علمها إلى القمر ومازالت تنحط بجسدها إلى مدارك الرقيق”. ربما هي أزمة الإنسانية اليوم وكما في كل زمان: تتقدم في وسائل قدرتها أكثر مما تتقدم في وسائل حكمتها، وكما تذكر الحكمة العربية في ذلك:

كنْ موقناً أن الزمانَ وإِن غَدا * لكَ رافعاً سيعودُ يوماً واضعا

والطيرُ لو بلغَ السماءَ محلُّهُ * لا بدَّ يوماً أن تراهُ واقعاً

‫تعليقات الزوار

8
  • اصيوان
    الأحد 14 يونيو 2020 - 09:22

    و (الربيع العربي) يا اوزين ما محله من الاعراب ؟هل عرف العرب في مجالهم الجغرافي التاريخي ما سمي بريبع عربي ام شمال افريقيا الأمازيغية هي التي عرفت هدا الربيع؟ان صدور هدا النعت بدون تحفض من رجل كان مسؤولا وما يزال يعتبر نفسه ممارسا للسياسة امرا غير مقبول اللهم ان كان الرجل حقا يعتبروجود ما يعطلق عليه زورا وبهتانا (العالم العربي والوطن العربي).

  • luk
    الأحد 14 يونيو 2020 - 12:38

    مقال فيه الكثير من الذكاء في كيفية الصياغة و البلاغة.
    أما المعلق الأول فلم ير من المقال إلا الربيع العربي و كأنه يريد أن يجعل من اليمن و سوريا ومصر و البحرين دولا أمازيغية رغم أنفها.
    التطرف العرقي و الفكري كااااااارثة.

  • amaghrabi
    الأحد 14 يونيو 2020 - 14:23

    استاذي اوزين تعلمنا سنن الكون ان الحضارة تنمو وتتطور وتتربع على عرش الإنسانية ثم تاتي مرحلة الهبوط حتى تصل الى الحضيض وتظهر حضارة جديدة بافكار جديدة ووسائل علمية وسياسية جديدة ,فالخط التاريخي يحتوي على نقط هامة ومشرقة لحضارات مرت على هذه الأرض المباركة وشملت جميع انحاء الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا,الهندية والبابلية والفرسية والرومانية والإسلامية والاروبية والأمريكية اليوم,وبالتالي بكل تأكيد أمريكا لا تكون استثناء في هذا الكون لتتربع الى ملا نهاية له من التاريخ المستقبلي .اليوم الأحوال الاجتماعية في العالم باسره في حركة غليان اجتماعي بحيث الكل غير راض بما يجري في وطنه والكل يحس بعدم الاستقرار النفسي والكل ينتظر الأسوأ اذا ما استمر هؤلاء المسيرين والحاكمين في العالم الذين ينشرون الفتن ويصنعون الأسلحة الفتاكة ويتاجرون بالأسلحة المدمرة حتى اصبح العالم باسره يعيش تحت ظلال السيوف .واليوم الشعوب تثور ولا تبالي بالتنائج العكسية التي تزيد الطين بلة وانما لا بد من مقاومة هؤلاء الانانيين الذين يعملون من اجل مصالح ضيقة ويقصون الدول الفقيرة ويسببوا في بؤسها والامها وفقرها وعبوديتها حتى اصبحنا نر

  • مصطفى الرياحي
    الأحد 14 يونيو 2020 - 14:35

    بين التقدم التكنولوحي والتقدم الأخلاقي برخ لا يبغيان أخلاقيا لا زال العالم أو على الأقل حضارة القمح لم يبرح العصر الحضري والعقل الثعبانيreptilien لابد في الجمامجم قد ينفث سمومه في أي لحظة
    العقل اللذي اخترع عوالم فراكتالية Fractals ب أبعاد ذات العد الغير الطبيعي nombres rationnels يعيش في عالم ذي أبعاد دون الواحد >1
    الكاتب يوجه لآمريكا نفس الخطاب اللذي وجهت أمريكا للعراق واستفزهم بالربيع العربي كالناصح الوديع
    ما بني على العنف باطل ولو بعد حين .عالمنا عنيف جدا , عنيف ضذ الفقراء عنيف ضذ النساء عنيف ضذ المسنين عنيف ضذ الأقليات الإثنية واللغوية وقواننا لا تحمي المغفلين

  • المهدي
    الأحد 14 يونيو 2020 - 14:42

    أصل كلمة الدرك كما شرحها لي احد أهل البادية مازحاً يعني يدركوك فين ما مشيتي أوليدي ..
    الفرق يا أستاذ فيما يخص الشرارة التي أطلقت الربيعين العربي والأمريكي هو أن الشرطية التي صفعت البوعزيزي لم تقتله وان شعر انها قتلت كرامته ورجولته بينما الشرطي الامريكي قتل فلويد عن سبق الإصرار وهو يجثم على رقبته بركبته لمدة 9 دقائق وما كان فلويد لينتحر لو صفعه الشرطي أو رفع ركبته عن رقبته فهو في نهاية المطاف كان منحرفاً يروج عملة مزورة غير أن المشهد الدرامي لعملية قتله حجب هذا الجانب المنحرف والإجرامي من سلوكه .. البوعزيزي لم يكن بصدد السرقة أو ترويج ممنوعات كان فقط يبيع الخضار والفواكه وهنا الفرق بين الضحيتين احدهما أحس بالإهانة وهو العفيف فأضرم النار في جسده والثاني قتل ظلماً لكنه لم لكن طاهراً وإن تشفع له الهبّة ضد الظلم والميز العنصري وعنجهية الرجل الأبيض واضطهاده لمن هم من غير عرقه ….

  • المهدي
    الأحد 14 يونيو 2020 - 17:00

    سّي الرياحي تحية ، الفرق بين الأنظمة التي أسقطها ما يسمى بالربيع العربي وإمكانية سقوط النظام الامريكي الترامپي تحديداً يستند الى أمرين على طرفي نقيض بالغي الأهمية :
    الأنظمة العربية التي أسقطت بعنف وأخص منها بالذكر العراق وليبيا لم يسقطها الربيع ولا ثورة الشعب بل التدخل الخارجي والتحالف الذي ضم أعتى القوى العسكرية بما فيها حلف الناتو الذي دمر طرابلس واقتفى اثر العقيد وهو نفس التحالف الذي اصطاد صدام وسلمه لاعدائه .. عندما يسقط الحاكم العربي فالنظام ككل هو من يسقط وهنا المفارقة ذلك أن الأحداث التي تجري في أمريكا اليوم قد تسقط ترامب من الرئاسة وليس حتى الأن بل تقصيه من الولاية المقبلة لكن النظام الأمريكي لن يتغير ولن يسقط ومهما أمعنت الشرطة تقتيلاً في السود فلن يتشكل تحالف دولي ضد أمريكا ولن يفعل مجلس الأمن ميثاقه الانتقائي وبالتالي لن يحدث شيء ولن يختفي ترامب في حفرة خوفاً من قوى الخير القادمة لإنقاذ السود المضطهدين في الولايات المتحدة .. الأنظمة العربية أنظمة شمولية اذا عطس الحاكم سرت القشعريرة في جسد الأمة وإذا سقط أو أسقطوه حل الخراب وانتهى النظام .. أمريكا شيء أخر بإمكان رئيسة الكونغريس ان تمزق خطاب الرئيس امام ناظريه وبإمكان الجماهير ان تصنع له دمية تكيل لها اللكمات وبإمكان الناخب في النهاية ان يزيحه ويقذف به ليصنّف كأسوأ رئيس عرفته الولايات المتحدة منذ نشأتها ….

  • سولوه
    الأحد 14 يونيو 2020 - 17:26

    القوي ياكل الضعيف.راه ما كاين لا ديموقراطية ولا سدهم زكري.والتاريخ يشهد.تفاهات قتلوا بشر بالملايين عبر التاريخ .. .فين سكان امريكا الاصليين… والتطاحن قائم. المصالح تعددت والكل يلغى بلغاه…

  • Hassan
    الأحد 14 يونيو 2020 - 20:28

    هذه الجائحة أظهرت لنا بعض الخبايا . الأستاذ صاحب هذا المقال يستحق عمود في جريدة . و قد تستقطبه السلطة الرابعة قبل التشريعية .صاحب عمود ركن من اليومية . المقال أذب عذب .الفكرة مثل شجرة تنطلق بكلمة وتتفرع معاني و أحداث تثري المعلومة . شكرا لهسبريس وللكتاب وللقراء بكم نحيا الزمن الجميل .

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 1

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين