العولمة والهوية الثقافية

العولمة والهوية الثقافية
الإثنين 4 ماي 2020 - 07:14

إن الهوية هي الكيفية التي يعرف الناس بها ذواتهم أو أمتهم، وتتخذ اللغة والثقافة والدين أشكالا لها، فهي تستطيع أن تكون عامل توحيد وتنمية، كما يمكن أن تتحول إلى عامل تفكيك وتمزيق للنسيج الاجتماعي، الذي تؤسسه عادة اللغة الموحدة والتقاليد والمصير المشترك، في الوقت الذي يشهد العالم انفتاح الثقافات عن بعضها من خلال الاتصال الثقافي والتواصل الاجتماعي، وهو ما قد يحدث أحيانا صداما بين الثقافات.

وإن ما يشغل اهتمام النخب الثقافية في الوقت الحاضر هو كيف يمكن التوفيق بين العولمة والهوية الثقافية، نتيجة الشعور بمحاولة تنميط سلوكيات البشر وثقافتهم في المجتمعات وإخضاعها لنظام قيم وأنماط سلوك سائدة في المجتمعات الغربية، مما ساعد على ظهور العصبيات القبلية والطائفية والمذهبية والقومية الضيقة، تحت ذريعة حماية الخصوصيات الثقافية.

وعلى هذا الأساس نطرح التساؤلات التالية: هل ما جاءت به الحداثة الغربية من قيم ثقافية تتلاءم وطبيعة الهوية الثقافية للمجتمعات غير الغربية؟ وهل التمسك بالخصوصية الثقافية يعتبر ابتعادا ورفضا للعولمة الثقافية؟ وهل يمكن الحديث عن ثوابت ومتغيرات في القيم في ظل التغيرات الاجتماعية والثقافية في المجتمع؟ ثم هل الهوية الثقافية شيء انتهى وتحقق في الماضي، في فترة زمنية معينة؟ وهل الهوية الثقافية قابلة للتحول والتطور والتعايش مع “عولمة الثقافة”؟

في مقالنا هذا المختصر سوف لن نستفيض في الإجابة على هذه التساؤلات، فقط سنلقي بعض الأضواء نعتبرها أساسية في كل بحث في هذا المجال الفكري والفلسفي. ففي البداية لا بد أن نشير إلى أن الهوية الثقافية، هي مجموعة من السمات والخصائص التي تنفرد بها شخصية مجتمع ما، وتجعلها متميزة عن غيرها من الهويات الثقافية لمجتمعات أخرى، وتتمثل تلك الخصائص في اللغة والدين والتاريخ والتراث والعادات وغيرها من القيم الثقافية المختلفة (العقائدية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية)، والتي تشكل في مجموعها صورة متكاملة عن ثقافة هذا المجتمع.

وقد ظهر في العالم، تياران: تيار يؤيد العولمة ويدافع عنها. وتيار يعارضها ويناهضها.

فالتيار المؤيد للعولمة، يستند إلى أنها أحدثت نقلة نوعية في كل ميادين المعرفة، وقربت المسافات، واختصرت الزمن، وساهمت في التلاقح بين الحضارات؛ وتعزيز ثقافة التنوع الإنساني والقيم الثقافية. ومن بين رواد هذا التيار نجد الأمريكي “همنغواي”، والروسي “تشيكوف”، والألماني “غونتر غراس”، والايرلندي “برناردشو”.

أما التيار المعارض للعولمة، فيستند إلى أنها غيرت البنية الأساسية لكل مكونات الحياة على جميع المستويات: السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، فساهمت في ازدياد معدلات البطالة وفي انخفاض الأجور، واتساع الهوية بين الفقراء والأغنياء، وتقليص دور الدولة في مجال الخدمات كالصحة والتعليم. ومن بين رواد هذا التيار نجد النمساوي ـ” هانس بيتر مارتن ” والألماني “هارالد شومان”.

فكيف يمكن التوفيق بين التيارين المتعارضين، حتى تكون لدينا نظرة موضوعية عن فكرة العولمة؟

إن ما يهمنا أكثر في هذ الصدد هي العولمة الثقافية. فهناك من اعتبرها أخطر من العولمة الاقتصادية بما تحمله من قيم غربية تريد أن تفرضها كنموذج مثالي على باقي الثقافات العالمية.

لكن انتقاد العولمة الثقافية، بحجة ما تحمله من قيم بعيدة عن الهوية الثقافية المحلية للمجتمعات، لا يكون بالأساس عن طريق تأكيد الهوية وترسيخها والتشبث بها كنسق مغلق، لأن ذلك لن يمكن المجتمع أن يساير العصر وما ينتجه من ثقافة وإبداع وفكر وتقدم معرفي بصفة عامة، بل يبقى مشدودا إلى الفكر الجامد، غير القادر على التحرر الثقافي من النسق القيمي للثقافة المحلية أو الخصوصية. وهو ما أدى إلى العودة القوية لثوابت الهوية الثقافية، نتيجة الشعور بالإحباط من العولمة وما تحمله من قيم للحداثة ومحاولة نقدها والبحث عن خيارات جديدة في التراث وفي الدين.

ثم إن انفتاح الثقافة المحلية على المحيط الخارجي، ينبغي في رأينا، أن لا يكون مؤشرا على إضفاء صفة القداسة على العولمة الثقافية، وأن لا يكون معنى عولمة الثقافة هو فرض ثقافة أمة على سائر الأمم، أو ثقافة الأمة القوية الغالبة على الأمم الضعيفة المغلوبة. ذلك أن قدرة العولمة الثقافية في فرض وجودها واستمرارها لن يتحقق ما لم تراع هذه العولمة خصوصية ثقافات المجتمعات، ومراعاة تاريخ الشعوب وحقوقهم الثقافية.

ومن هذا المنطلق، فإن إعادة بناء النظرية النقدية للعولمة الثقافية صار ضروريا، لكي تعرف النخب الثقافية والمجتمعات كيف تتفاعل معها في ظل المتغيرات الراهنة والمستقبلية، وماذا تأخذ منها وماذا تدع وتترك. فليس كل ثقافة قادمة من الغرب مقدسة. وفي هذا الخصوص، نشير إلى أن الحداثة، كفكرة غربية، تم تجاوزها، وظهرت مرحلة “ما بعد الحداثة” التي تعيش هي بدورها أزمة، لعدم قدرتها على الحسم في كثير من الإشكالات المعاصرة للثقافة والهوية والدين.

*مفكر مغربي

‫تعليقات الزوار

2
  • خطابات لا فيدرالية
    الإثنين 4 ماي 2020 - 13:05

    تيار معارض للعولة ،،، وتيار منصهر ،،الخطابات الطائفية و القبلية والعرقية نتيجة طغيان العولمة ،،الاحباط او الافلاس الثقافي …اولا لا وجود لمابعد الحداثة، هناك ما عد صراع الشرق و الغرب. كانت هناك هدنة و سلام عالمي ، الديموقراطية و السلام ليسا بفلسفتان ،الاولى نهج سياسي و التانية مثاليات ،الخصوصيات حقوق ديموقراطية حتى الطائفية النظام الفيديرالي
    قادر على احتظانها. هل ستسفط عربيتك بدعوى العولمة؟ ابدا. و تطالب مني ان اسقط لغتي و ابحر معك في ثقافتك و بلغتك العربية ؟ لا و الله ولو باسم المقدسات ،.تنائيات الثقافة المشرقية ثابتة سرمدية، توأم الفكر الصهيوني .وهو ما يصر المثقف العربي على انكاره (مايجري في سوريا و العراق واليمن نكوص الى الفكر النازي و الفاشي )،نحن و الغرب او نحن و التراث ..كورونا هي نهاية هدنة تحرير التجارة الهالمية. (مثلا مؤشراتها في المغرب هي حملات المقاطعة و قانون 20-20 ) و الثقافة هي اداة و موضوع رمزي يخضع لقانون العرض و الطلب .وفي هدا المقال هي اداة اكتر مما هي موضوع .

  • sifao
    الإثنين 4 ماي 2020 - 22:36

    إن الهوية هي الكيفية التي يعرف يها الانسان ذاته أو وطنه ، وليس امته ، لان الامة ليس تحديدا جغرافيا محددا اولها تاريخيا موحدا،الامة مفهوم فضفاض لا يمكن تحديده وقف خصائص محددة ودقيقة ،عكس الوطن كتحديد جغرافي ، فاذا سألت احدا عن هويته وقال لك انا عربي ستضطر الى طرح سؤال اضافي من اية دولة عربية تحديدا،التحديد الجغرافي لمسألة الهوية يبدو ضروريا واكثر اجرائية من التحديد العرقي او الثقافي اما الديني فلس جزء من محددات الهوية على الاطلاق ، لسبب بسيط هو انه قابل للتغيير على المستوى الفردي والجماعي ايضا ، الغرب لم يعد مسيحيا كما كان قبل يضعة قرون ، وما يسري على الدين قد يسري على اللغة ايضا لكن بنسب مختلفة ، العولمة قد تهدد اللغات المكتسبة عبر التعليم،كحالة الفرنسية والعربية في المغرب،الا انها لن تشكل خطرا داهما على لغات الام،الامازيغية والدارجة…الثقافات القائمة على التنوع والتعدد والاختلاف بامكانها امتصاص اعراض العولمة واضافتها كبعد من ابعادها المختلفة،لكن الثقافات المنغلقة على نفسها بسبب سيطرة احد الطبائع على مقوماتها،كالثقافة العربية الاسلامية التي يشكل الدين عصبها الاساسي، ستندثر بسرعة

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 1

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين