براهين الوجود وحقيقة اللانهاية في الفكر الإسلامي

براهين الوجود وحقيقة اللانهاية في الفكر الإسلامي
السبت 4 يوليوز 2009 - 06:43

المطلب الأول: المذهبية والبرهانية في مناهج الأدلة الكلامية


تمهيد حول التصورات واقترانها بالتصديقات.


مسألة البرهانية عند أي مبحث من المباحث العلمية تعد المطلب الأقصى من معرفة وتقرير الحقائق كثوابت بديهية يستجيب لها كل عاقل ذي حس وبصيرة سليمة.


لكنه رغم بديهية البرهان المستنتج من دراسة ما وقوة المحاجة به فإنه قد يفيد التصور والتصديق عند البعض دون البعض الآخر وقد يفيد التصور ولا يحقق التصديق عند البعض دون البعض أيضا. بل ربما قد لا يفيد التصور وقد يفيد التصديق أو قد يفيد التصديق ولا يفيد التصور لدى البعض من الناس دون الآخرين.


ولهذا فإن البرهان لا يؤسس الإلزام بالتصور والتصديق بصورة عامة ما لم تتوفر المؤهلات اللازمة لتلقي المعرفة المبرهن عنها بصورة جلية من حيث مطابقة موضوعية البرهان للاستعداد الذاتي لتقبله على وجهه الكامل تصورا وتصديقا وتطبيقا.


ولا نجد هذه المراعاة لبرهانية الخطاب أو الأدلة وأحوال المبرهن له بصورتها الكاملة والدقيقة ومؤسسة على علم نفس البرهنة إلا في القرآن الكريم والحديث والسيرة النبوية، وتتجلى هذه المراعاة في قول الله تعالى “إن الذين كفروا سواء عليهم آنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم” . “إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون” . ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون”.


ولهذا فحينما تطرح الأدلة البرهانية المؤسسة على البديهيات الحسية والعقلية والوجدانية والتاريخية…..إلخ، فليس من الضروري أن يقترن هذا البرهان بالتصديقات من كل الأشخاص الذين تلزمهم الحجة بوجه من الوجوه لأنه ليس كل الناس لهم رؤية موضوعية مجردة إلى الحق، إذ الغالب على طبع الإنسان المتعود على الذاتية والأنانية الميل إلى الهوى وتغليب نداء الغريزة الشهوية أو الغضبية على غريزته الناطقة العقلية وتطلعاتها الروحية التي تؤسس جوهر كيانه وسر وجوده.


وبما أن علم الكلام عند المسلمين كما سبق وبينا متخصص بالدرجة الأولى في “الحجاج عن العقائد عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الإعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد”. فإن المتكلمين بهذا الاعتبار يتفقون جميعا على نقطة البداية ونهاية الغاية في دراساتهم وأبحاثهم مهما اختلفوا في تفاريعهم ومناهجهم، وذلك لأنهم لم يؤسسوا أفكارهم أو أبحاثهم على الهواء أو على الصفر كما هو الشأن عند الفلاسفة، بل اعتمدوا في تأسيس علمهم مصدرا محوريا وثابتا لتحديد مناهجهم ومعارفهم منه البداية وإليه النهاية “وأن إلى ربك المنتهى” .وهذا المصدر هو القرآن الكريم ثم الحديث النبوي الصحيح المبين والمحدد العلمي والسمعي لبعض معاني القرآن الكريم التي تتسامى على معاني اللغة العادية إلى اللغة الخاصة ذات الطابع الديني والغيبي بصفة أخص.


أولا: الطرق الرسمية في المنهجية الاستدلالية عند المتكلمين.


من المقرر في تاريخ الفكر الإسلامي أن المتكلمين مثلوا أسلوبا متميزا في الاستدلال يختلف في صياغته واستعمالاته عما كان يسلكه السلف الصالح بمعناه المذهبي والتاريخي. كما أنه يختلف من جهة أخرى من حيث التأسيس والتفريع عما سلكه الفلاسفة المسلمون في دراستهم العقدية، وبسبب هذا التميز الذي برز على مناهج المتكلمين كان طبيعيا أن يتعرضوا لانتقادات واستفسارات تتخذ في بعض الأحيان صورا موضوعية محضة ومرة أخرى تغلب عليها خلفيات مذهبية خاصة إما ذات ادعاء أصولي سلفي تاريخي بالدرجة الأولى كما سبق وعرضنا له، و إما ذات تأثرات وتقليدات أجنبية أو ذاتية فلسفية محتكرة للبرهانية في زعمها!


فطرق الاستدلال عند المتكلمين تنوعت بحسب مدارسهم وبحسب التطور المنهجي والاستدلالي الذي عرفته الساحة الكلامية غير أنها تركزت بالدرجة الأولى حول طريقتين أولهما مؤسسة للثانية وأشمل منها حضورا في مباحث المتكلمين.


أما الطريقة الأولى فهي مؤلفة من مقدمات ساعية إلى بيان “أن العالم حادث”، مع “إبطال القول بقدمه”. وقد سلك عامة المتكلمين “طريقة الإثبات بإثبات الأعراض أولا وإثبات حدوثها ثانيا وبيان استحالة خلو الجواهر عنها ثالثا وبيان استحالة حوادث لا أول لها رابعا. ويترتب على هذه الأصول أن ما لا يسبقه الحوادث فهو حادث، وقد أوردوا هذه الطريقة في كتبهم أحسن إيراد” ويمكن ترتيب هذه الطريقة الاستدلالية على مقدمات مصاغة كالتالي، “أولا أن الجواهر لا تنفك من الأعراض. أي لا تخلو منها، ثانيا: أن الأعراض حادثة، ثالثا: ما لا ينفك عن الحوادث حادث، أي ما لا تخلو منه الحوادث هو حادث” فتكون النتيجة “كل حادث فلحدوثه سبب” .


وأما الطريقة الثانية فهي التي استنبطها أبو المعالي الجويني في رسالته المعروفة بالنظامية ومبناها على مقدمتين: إحداهما أن العالم بجميع ما فيه جائز أن يكون على مقابل ما هو عليه حتى يكون من الجائز مثلا أصغر مما هو وأكبر مما هو أو بشكل آخر غير الشكل الذي هو عليه أو عدد أجسامه غير العدد الذي هو عليه. أو تكون حركة كل متحرك منها إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها. حتى يمكن في الحجر أن يتحرك إلى فوق وفي النار إلى أسفل وفي الحركة الشرقية أن تكون غربية و في الغربية أن تكون شرقية.


والمقدمة الثانية: أن الجائز محدث وله محدث أي فاعل صيره بإحدى الجائزين أولى منه بالآخر” .


وهذه الطريقة الاستدلالية تتكامل والطريقة الأولى عند البرهنة كما سنرى، لأن نقطة البداية والغاية واحدة كما سبق وقلنا. غير أن الطريقتين ستعرفان جدلا سواء فيما يتعلق بجزئيات المقدمات التي انبنت عليها أو على مستوى الأحكام الكلية المؤسسة لهيكلة الطريقتين الاستدلاليتين.


أ) دليل الحدوث بين موضوعية الطرح وخلفيات الاعتراض.


فيما يخص الطريقة الأولى للاستدلال عند المتكلمين، فإن الخلاف سيتمركز حول مسألة الجوهر، الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ، باعتباره قاعدة رئيسية في إثبات حدوث الأجسام والعالم بينما سيعترض عليه بعض المعتزلة كالنظام مثلا وكذلك ابن حزم الظاهري في كتابه “الفصل في الملل والأهواء والنحل” الذي ذهب إلى القول بأن كل جزء إلا وهو قابل لكي يتجزأ إلى ما لا نهاية مهما دق وصغر . بينما ذهب ابن رشد إلى التشكيك في وجود الجزء الذي لا يتجزأ باعتباره أن الكم المتصل غير قابل لكي يصبح كما منفصلا، ظانا أن بنيته مؤسسة بالاتصال وليس بالتركيب الجزئي، المؤدي إلى التجزؤ النهائي الذي تنحل إليه العناصر .


غير أن الأشاعرة يذهبون إلى أن كل موجود إما متحيز أو غير متحيز وأن كل متحيز. إن لم يكن فيه ائتلاف فنسميه جوهرا فردا وإن ائتلف إلى غيره سميناه جسما”.


وهكذا ينبني عندهم حدوث العالم على القول ابتداء بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ، وأن الجزء الذي لا يتجزأ محدث والأجسام محدثة بحدوثه” وهذا الخلاف بين المذهبين في الحقيقة ليس سوى خلاف شكلي قبل أن يكون جوهريا وهو قائم حول اعتبار الإمكان الذهني أو الإمكان الواقعي، إذ أن القول بالانقسام الذري إلى ما لا نهاية قول بالإمكان الذهني والتجويز العقلي لا غير، وقد يمكن إقراره بالتأسيس على قاعدة عقدية هي الإيمان بقدرة الله سبحانه وتعالى على تشطير الذرة إلى ما لانهاية. بينما القول بالجزء الذي لا يتجزأ يؤسس مبدأ الذرة وتأليف الكون منها وهذا واقع وملاحظ، بل إن العلم الحديث يؤكده ويؤيده، ومن هنا فإن مذهب الأشاعرة في هذا الموضوع هو ذو أسس علمية مستنبطة من القرآن الكريم الذي نص في عدة آيات على أن لكل كم متصل أو منفصل نهاية صغرى يؤول إليها ويتأسس عليها بنيانه وكيانه المتكامل، إما بالتركيب أو بالإضافة كما في قوله تعالى “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”.


ورغم هذا الخلاف حول الجزء الذي لا يتجزأ أو يتجزأ إلى ما لا نهاية فإن المتكلمين متفقون على أن الجواهر أو الأجسام حادثة. لكن الأشاعرة بصفة خاصة وباعتبارهم أبرز فرقة كلامية تدرج ضمن فرق أهل السنة من الناحية العقدية سيؤسسون هذا الحدوث بالتركيز على الجزء الذي لا يتجزأ، لأنه من جهة يؤلف أجساما ومن جهة فإن الأجسام تظهر عليها بوضوح تام علامات الحدوث حسا وعقلا، وهم بهذا التركيز ضربوا عصفورين بحجر واحد، وهو إثبات الحدوث بتركيب الأجزاء وإثبات حدوث الأجزاء بحدوث الأجسام التي تنطق بتركيبها الجوهري وأعراضها الملازمة لها شاهدة بحدوثها مهما عظمت أو صغرت. وعلى هذا المبدأ تأسست طريقة الاستدلال الأولى عند الأشاعرة منبنية على المقدمات الثلاث كما رأينا. وقد اعترض ابن رشد بصفة خاصة وحادة على هذا المنهج الاستدلالي وبدعوى متكلفة نوعا ما، وذلك بقوله من جهة أن هذه الطريقة في الاستدلال ليست بالطريقة الشرعية ومن جهة أخرى ليست بالطريقة البرهانية. كما أنها ليست صالحة للجمهور لغموضها-حسب ادعائه- واعتياصها وهذه المبررات لرخص هذا المنهج الكلامي غامضة في خلفياتها وغاياتها، فمن حيث القول بأنها ليست الطريقة الشرعية، فإن الشرع ليس فيه ما يمنع النظر واستنباط المناهج وصياغة المفاهيم والأساليب الاستدلالية كل حسب اجتهاده مادام لم يتعارض مع النص و الغاية الإسلامية، ولهذا فالاعتماد على دليل الحدوث كمنهج للاستدلال على وجود الله سبحانه وتعالى منهج شرعي أي محمود شرعا، مادام أنه يسعى إلى غاية شريفة ويقوم بوظيفة جهادية على المستوى العقدي، وعند هذا الموضوع يمكن إقحام ابن تيمية ومن سار على أسلوبه في رفض دليل الحدوث عند المتكلمين لأنه سواء الاتجاه الرشدي أو التيمي في رفضهما لمنهج المتكلمين القائم على حدوث الأعراض والجواهر والأحياز، لا بد وأن له خلفية مذهبية عقدية معينة يخشى عليها أن تنهد إن هو أقر بمقدمات هذا الدليل.


فابن رشد يريد أن يقحم التصور اليوناني وصلته بالخالق في التصور الإسلامي كتوفيق متكلف واضح وصريح لا يقبل التأويل، بحيث يذهب إلى الدفاع عن موقف الفلاسفة حول العالم، محاولا جهده تبرير قولهم بقدم العالم رغم افتقاره إلى الخالق في تصورهم بتبريرات ملتوية وعويصة لا يقرها الشرع ولا يشهد لها العقل الصريح كما ذهب إلى اعتبار الأخطاء العقدية في حكم الاجتهاد الذي يؤجر عليه صاحبه ولو أخطأ فيه. والسبب في ذلك كله هو مذهبيته المتكلفة للتوفيق بين الدين والفلسفة اليونانية وخاصة الأرسطية منها توفيقا كليا يكاد يجعل التقرير الديني الإلهي يتطابق والنظر الإنساني القاصر تطابقا متكافئا. وهذا فيه إسراف واغترار بالفكر الإنساني الذي لا يكاد ينسلخ من التناقض في الحكم على ذاته المحدثة، فكيف بدعوى استيعابه لقضايا عالم الغيب والشهادة بالجملة والتفصيل، وعند هذا الاعتراض لا أناقش ابن رشد في معتقده الخاص لأن هذا ليس من غرضي في هذا المبحث، ولكن قصدي هو تحديد الصور البرهانية لدليل الحدوث عند المتكلمين ومساهمتهم بالتأسيس البرهاني للمباحث العقدية.


أما ابن تيمية فهو بدوره يرفض بعض أسس دليل الحدوث عند المتكلمين بدافع مذهبي، وذلك لإقرار مفهوم الاستواء على العرش أوصفات النزول والمشي أو غير ذلك من الصفات التي صرح بها النص القرآني أو الحديثي على وجه المجاز أو المتشابه حسب الاعتبارات، بينما يذهب ابن تيمية إلى اعتباره على ظاهره حسب مذهبه في التأويل، ولهذا السبب يرفض دليل الحدوث بقوله: “وكذلك قوله – أي الكلامي لو كان في جهة لكان جسما وكل جسم محدث لأن الجسم لا يخلو من الحوادث فهو محدث لم يذكر عليه دليلا. وغايته ما تقدم أنه لو كان في جهة لكان جسما وكل جسم محدث لأن الجسم لا يخلو من الحوادث فهو حادث، وكل هذه المقدمات فيها نزاع!” .


إذن فالاعتراضات ليست علمية محضة، وإنما هي ذات خلفيات مذهبية تمثل النزاعات الخاصة في التصور العقدي، وتبدو المغالطة في هذه الاعتراضات وخاصة عند ابن رشد حينما يصرح بأن طريقة المتكلمين ليست بالطريقة البرهانية حسب مفهومه، ناسيا أن علم الكلام نشأ من أجل الدفاع عن الجمهور في عقيدته، ولهذا فلو تعلق الأمر بالجمهور فإنه مبدئيا مؤمن جملة ولا يحتاج إلى استدلال أو تفصيل متشعب قد لا يفهمه، ومن هنا فالخطاب الكلامي لم يكن خطابا من أجل الجمهور، وإنما كان من أجل فئة من الناس إما متشككة في عقائدها أو مشككة للجمهور في عقائدهم، فكان واجب الرد بحسب نوعية التشويش المثار على المستوى الداخلي أو الخارجي.


أما دعوى سلب البرهانية من المنهج الكلامي واستدلالات المتكلمين فهي محاولة لتحجير البرهنة في ضيق الحلبة الفلسفية المؤسسة على المنطق اليوناني بقياساته وتقنياته المحدودة، وهذا ما لا يتفق عليه الفلاسفة أنفسهم، إذ لو كان البرهان من اختصاصهم لما تناقضوا فيما بينهم تناقضا صارخا أظهرهم على صورة المتهافتين كما وصفهم أبو حامد الغزالي، بيد أن المتكلمين كانت مواقفهم الجوهرية موحدة، ونظرهم في الأصول متطابقا، وإن هم اختلفوا فلم يكن سوى اختلاف شكلي وليس جوهريا على نمط الاختلاف الذي حدث كما عرضنا حول الجوهر الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ أو يتجزأ إلى ما لا نهاية، ولا ينبغي أن يعتبر ما نحا إليه بعض الحشوية أو المتطرفة العقليين في بعض المسائل الكلامية من آراء شاذة والشاذ لا يقاس عليه.


وهذه المواقف الموحدة التي اشتهرت عند المتكلمين سرها التوحيد والإيمان الأساسي الذي أنار لهم السبيل لاكتشاف المناهج والبراهين المرسخة له في قلوبهم وعقولهم، ولهذا فكيفما كان طرحهم وطرق استدلالهم فإنه في النهاية يعود إلى البرهان الأصلي، وهو القرآن الكريم والسنة النبوية محور التدبر والاستدلال.


ولهذا الارتباط العقدي بالقرآن والحديث النبوي تنوعت طرق الاستدلال عند المتكلمين بالإضافة إلى الطرق الرئيسية التي سبقت إليها الإشارة باعتبارها مسلكا خاصا له ظرفيته ومبرراته التاريخية والزمانية والمكانية.


ب) منهج التجويز العقلي وأبعاده الاستدلالية والمعرفية:


وبنفس الخلفية سيسلك ابن رشد اعتراضه على الطريقة الاستدلالية الثانية والتي استنبطها أبو المعالي الجويني كما مر بنا، وذلك في مقدمتين مضطربتين مضادتين للطريقة المعروضة عند المتكلمين الأشاعرة، إذ في المقدمة الأولى اعتبر أنها “خطبية قد تصلح لإقناع الجميع، ومن جهة أنها كاذبة ومبطلة للحكمة. وفي المقدمة الثانية وهي القائلة إن الجائز محدث فهي مقدمة غير بينة بنفسها وقد اختلف العلماء (في نظره) فأجاز أفلاطون أن يكون شيء جائز ازليا ومنعه أرسطو، وهو مطلب عويص ولن نبين حقيقته إلا لأهل صناعة البرهان” .


وخلفية الاعتراض هنا واضحة بدليل اعتبار المقدمة خطبية، بمعنى أنها لا تتوفر على شروط البرهان بالتحديد المنطقي اليوناني، بل إن التناقض في اعتبارها خطبية مع الإقرار بأنها برهانية قد صدر في نفس الجملة الاعتراضية التي صرح بها وهي أن المقدمة قد تصلح لا لإقناع الجميع، والجميع يعني كلية شاملة للمخاطبين يدخل في حكمهم أهل الخطابة والجدل والبرهان، وهذا ما يعني أنها بديهية مؤسسة للبرهان وليس أنها كاذبة كما يزعم ابن رشد، ثم إنه برر وصفه للمقدمة بالكاذبة بدعوى أنها مبطلة للحكمة، وهذه الدعوى متناقضة في نفسها، ومناقضة للمقصد الذي رام إليه المتكلمون باختيارهم لهذا المنهج الاستدلالي، وذلك لأن صلاحها لا قناع الجميع لا يجتمع مع كذبها في موافقة الحقيقة للاشتراك العام لدى العقول في أحكام البداهة، وهذا تناقض ذاتي لا مفر منه يسقط فيه ابن رشد!


والمناقضة الثانية للمقصد من هذه المقدمة، هو أن المتكلمين لم يبطلوا أصلا مبدأ الحكمة في خلق الكائنات ولم يصرحوا أبدا أن الجائز في تصورهم وأذهانهم أولى وأحسن من الواقع الموجود فعلا. كما أن التصريح والتضمين في مباحثهم كلها تنحو إلى تفضيل الموجود على المعدوم ولو كان معلوما حسب بعض الاتجاهات التي ترى أن المعدوم معلوم. ونعلم جيدا كيف صاغ بعض المتكلمين حكمة الوجود المرئي بقولهم: “ليس في الإمكان أبدع مما كان” أو “نقصان الكون عين كماله” بدليل أنه لولا اعوجاج القوس لما صلح للرمي، وهذا تصور عام عند المتكلمين ولهذا فالقول بإمكان أن يكون العالم على مقابل ما هو عليه الآن هو قول معقول يفتح المجال للإبداع والارتقاء والتطور والتبدل. كما هو منصوص عليه في القرآن الكريم “يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار”. إذ لو كانت الأرض أو السموات كاملة بذاتها لما تبدلت أو تغيرت ولكن فتح المجال لتبدلها وتغيرها يدل بداهة على وجود المرجح المؤدي إلى هذا التبديل وتفضيل صورة على صورة كيفما كان وضع هذا التبديل أو التغيير وعلى الشكل الذي أمكن تشكيله، فإن حكمته تتجلى في قصد الحكيم منه لا في حكمنا على حكمته مادام الممكن موجودا ويؤدي وظيفته التي خلقه الله من أجلها. ورغم هذا التصور المجوز لإمكان خلق العالم على صورة غير التي هو عليها الآن فإن رأي المتكلمين حول هذا التجويز مقيد بالمقدمة الثانية وهي أن الجائز محدث وله محدث أي فاعل صيره بإحدى الجائزين أولى منه بالآخر، وعند هذا القيد أثبتوا الحكمة من وجود الأولى دون الأدنى.


فالأولى هو الموجود والواقع، والأدنى هو المتخيل أو المتوقع أو المعدوم المعلوم، والمحدد لوجود الأولى دون الأدنى هو الذي أضفى الحكمة على هذا الموجود. ومن ثم كان القول بالجواز الذهني لتصور الواقع على غير ما هو عليه، مؤديا بالضرورة والبداهة العقلية إلى تأكيد وجوب وجود المرجع للواقع على المتوقع أو المتخيل، وأن الواقع حادث بفعل التخصيص دون سائر الإمكانات، وكل حادث فلحدوثه سبب، إذن فالعالم له سبب في حدوثه.


وهذه القاعدة الاستدلالية عند المتكلمين لها بعد مهم جدا وهو إزالة كل توهم حول إمكانية استقلالية الكون بالتسيير الذاتي وحتمية التفاعل الطبيعي، وذلك بإقرار نقصه الذاتي ووضع مبدأ الحتمية في مجموع الاحتمال المتوقع. وهو ما يشهد به الحس والعقل وتؤكده التجارب العلمية الدالة على عدم وجود ضرورة لزومية بين العناصر الكونية في تفاعلها إلا ما تأسس بالعادة والتأليف المتكرر. وهذا ما حدا بالغزالي إلى رفض المذهب الطبيعي الذي كان يتبناه الفلاسفة اليونانيون رغم اعتقادهم في العلة الأولى لوجود الكون، فكانت قاعدته المشهورة والمتلخصة في هذا النص: الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وبين ما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لاثبات الآخر ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجودا أحدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر. مثل الري والشرب والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المسهل، وهلم جرا إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف. فإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه بخلقها على التساوق لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفوت بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون جز الرقبة وإدامة الحياة مع جز الرقبة وهلم جرا. إلى جميع المقترنات” .


وهذا النص في الواقع يمثل دفاعا عن طريقة المتكلمين هاته، وهو مع ذلك لا يلغي الحكمة أو يبطلها كما زعم ابن رشد، لأن الحكمة تتجلى في الوظيفة وأداء المهمة، وقدرة الله لا نهاية لها، بحيث يمكن أن يخلق الكون على غير صورته التي هو عليها ويكون حكيما. وخلقه له فيه حكمة. ولهذا فالقول بإمكان وجود العالم على مقابل ما هو عليه لا يعني أنه بإمكانه تصور ما هو أجمل من الكون الذي خلقه الله سبحانه وتعالى فهذا في حقنا مستحيل ومستبعد، ومهما توسع خيال الإنسان فهو لا يتخيل سوى تأليف بين عناصر الواقع ولا يستطيع أن يتخطى عالم المحسوس إلا برواسبه.ولهذا فنجد الخيالات العلمية سواء منها القصصية أو السينمائية المشخصة حينما تريد أن تتصور كائنات أخرى غير الكائنات الأرضية فإنها لا تتصورها إلا مشوهة وأدنى مما عليه الكائنات الأرضية الملموسة والمشاهدة وذلك لأن الواقع هو الأصل، والخيال هو الفرع والفرع يكون دائما أدنى وأقل من الأصل.


ثانيا: المناهج التدعيمية وتوسيع الآفاق الاستدلالية.


إن الغالب على مباحث المتكلمين في استدلالاتهم هو توظيف القواعد المعرفية المؤسسة عليها الطريقتان، وقد تعتبر من خصوصيات المنهج الكلامي وخاصة عند المعتزلة والأشاعرة بصورة أخص، لكنه ورغم ذلك لم تخل مباحث المتكلمين من عرض طرق أخرى متنوعة ومستقلة بأساليبها غير هاتين الطريقتين الرئيسيتين، وإن كانت تصبو نحو هدف واحد وهو الاستدلال على وجود الخالق سبحانه وتعالى، وهذه الطرق تتميز بالسرعة في العرض والحسم البرهاني. وهي في استعراضها ترجع أصولها إلى الكتاب والسنة وكذلك إلى وقائع واستنتاجات فردية استنتجها بعض العلماء دون الآخرين ولم تؤسس منهجا مركبا من مقدمات، وذلك من باب الإقرار بأن القرآن الكريم هو أصل البراهين وأن دلائله فيها الغنية لكل مستبصر طالب للحق بصدق ونية صحيحة، ومن باب -أيضا فيما يخص الاستنتاجات الفردية لبعض العلماء- أن الدلائل قد تكون قطعية وقد تكون إقناعية، والاستكثار من الدلائل الإقناعية قد ينتهي إلى إفادة القطع، وذلك لأن الدليل الاقناعي الواحد قد يفيد الظن فإذا انضم إليه دليل ثان قوي الظن، وكلما سمع دليلا آخر ازداد الظن قوة، وقد ينتهي بالآخرة إلى حصول الجزم واليقين. فيثبت أن الجدل قد يقوم مقام البرهان في إفادة اليقين وأولى المواضيع برعاية الاحتياط فيه والمبالغة في التقرير وإزالة الشكوك والشبهات “معرفة الإله المدبر الحكيم” .


أ) ففيما يخص الأدلة الأولى المستنبطة من القرآن الكريم نجد مثلا فخر الدين الرازي يقول في كتابه “المطالب العالية من العلم الإلهي” . “واعلم أن هذا النوع من البحث بحر لا ساحل له وليس في شئ من الكتب بيان هذا النوع من الدلائل كما في القرآن، فإنه مملوء من هذا النوع من البيان. قال الله تعالى: “إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخربين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون” (البقرة آية 164) فهذه الآية مشتملة على ثمانية أنواع من الدلائل. فالثلاثة الأولى من الدلائل الفلكية وهي قوله تعالى: “إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار” والخمسة الباقية من الدلائل هي دلائل عالم العناصر وهي قوله تعالى. “والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس” ثم ذكر بعده دلائل النبات فقال: “وما أنزل من السماء من ماء فأحيا به الأرض” ثم ذكر بعده دلائل الآثار العلوية وذكر فيها نوعين: الرياح والسحاب فقال: “وتصريف الرياح لآيات لقوم يعقلون” .ونختم هذه الفصول بخاتمة عظيمة النفع وهي الدلائل التي ذكرها الحكماء والمتكلمون وإن كانت كاملة قوية إلا أن هذه الطريقة المذكورة في القرآن عندي: أنها أقرب إلى الحق والصواب، وذلك لأن تلك الدلائل دقيقة وبسبب ما فيها من الدقة انفتحت أبواب الشبهات وكثرت السؤالات.


وأما الطريقة الواردة في القرآن فحاصله راجع إلى طريق واحد وهو المنع من التعمق والاحتراز عن فتح باب القيل والقال وحمل الفهم والعقل على الاستكثار من دلائل العالم الأعلى والأسفل، ومن ترك التعصب وجرب مثل تجربتي علم أن الحق ماذكرته” .


ب) أما استدلالات آحاد العلماء ذات الطابع البرهاني أو الاقناعي المفيد للبرهان على كل حال فنجد لدى الرازي أيضا شواهد من هذا النوع إضافة إلى البحث الكلامي المذهبي والجماعي. أذكر من بينها دلائل لأصحاب الرياضات والمكاشفات وغيرهم من أصحاب العقول النيرة:


1) فمن دلائل أصحاب الرياضات (الصوفية) أنهم قالوا إن أصحاب الشكوك والشبهات وإن اجتهدوا في تقرير الخيالات الباطلة وتأكيد الشبهات الفاسدة في نفي الإله المدبر، إلا أنه إذا نزلت بهم حادثة مؤلمة وواقعة مهيبة فإنهم يجدون من صريح عقولهم وقلوبهم التضرع وإظهار الخضوع لإله العالم، والطلب منه أن يخلصهم من تلك البلية ويخرجهم من تلك المحنة، ووجدان هذه الحالة، كالأمر المعلوم بالضرورة بالاستقراء والاعتبار، ثم بعد الخلاص من تلك البلية ربما عادوا إلى تقرير تلك الشبهات وإيراد الخيالات، وإليه الإشارة في القرآن بقوله، “فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون” وهذا يدل على أن جميع العقول “السليمة” مقرة بوجود الإله الحكيم” .


2) ومن دلائل أهل العقول السليمة رغم عدم التخصص في العلوم الدقيقة أعرض طريقتين:


الطريق الأول: قال بعضهم: رعاية الاحتياط في كل شئ أولى من إهمال الاحتياط. فنقول: القول بإثبات الإله المختار للمكلف أقرب إلى الاحتياط من القول بنفيه، فكان الذهاب إلى هذا القول أولى. أما بيان أنه أحوط، فتقريره أن نقول: هذا العالم إما أن يكون له إله وإما أن لا يكون فإن لم يكن كان القول بإثباته مضرا فثبت أن القول بإله العالم أقرب إلى الاحتياط. ثم نقول: إله العالم إما أن يكون فاعلا مختارا أو لا يكون فإن لم يكن فاعلا مختارا كان إثبات الفاعل المختار غير مضر، أما إن كان فاعلا مختارا كان نفيه مضرا، أما إن كان فاعلا مختارا كان نفيه مضرا. فكان إثبات الفاعل أبعد عن الضر وأقرب إلى الاحتياط.


ثم نقول: “هذا الإله الفاعل المختار إما أن يقال إنه كلف العباد وأمرهم ببعض الأشياء ونهاهم عن بعضها وإما أن يقال: إنه ليس كذلك فإن لم يكن كذلك لم يلزم من القول بكونه آمرا ناهيا ضروريا وإن كان كذلك كان إنكار كونه آمرا ناهيا ضرر وإن كان كذلك كان إنكار كونه أمرا ناهيا أعظم المضار، فثبت بما ذكرنا أن الاعتراف بأن لهذا العالم إلها وأن ذلك الإله فاعل مختار وأنه آمر ناهي أبعد عن الخوف وأقرب إلى الاحتياط وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون المصير إلى هذا المذهب والاعتقاد أحوط لأن عند استيلاء الخوف الشديد يكون الأخذ بالجانب الأحوط متعينا” .


وهذه الطريقة الاستدلالية قد وظفها الإمام علي في رده على بعض المتسائلين عن قضايا العقيدة حيث قال له “إن كان الأمر على مازعمت تخلصنا جميعا وإن كان الأمر كما قلت فقد هلكت ونجوت” ، كما نجد تعبيرا شعريا عن هذا النوع من الاستدلال بالأحوط صاغه أبو العلاء المعري في هذين البيتين:


قال المنجم والطبيب كلاهما لا بعث بعد الموت قلت إليكما.


إن صح قولكما فلست بنادم أو صح قـولي فالخسـار عليكما .


وهذا النوع من الاستدلال قد نص عليه القرآن الكريم في عدة آيات نجد من بينهما قوله تعالى: “وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله” .


وهذا يؤسس قاعدة ثابتة وهي أن الإنسان العاقل ينبغي له أن يكون مؤمنا، وهو منهج العقلاء وطالبي النجاة ومقتضى الفطرة الإنسانية المتطلعة إلى ضمان السعادة في الحال والاستقبال.


3) أما الطريق الثاني: فقد كان بعض العقلاء يقول: إن لطمة واحدة تضرب على وجه صبي تظهر أن لهذا العالم إلها. وأن هذا الإله أمر بعض عباده بأشياء ونهاهم عن أشياء، وأن ذلك الإله أعد للمطيعين ثوابا وللمذنبين عقابا، وأنه بعث إلى الخلق رسلا مبشرين ومنذرين، وهذه هي الأربعة التي هي أشرف المطالب وأعز المقاصد.


أما دلالة هذه اللطمة على المطلوب الأول وهو إثبات الإله تعالى فنقول: ذلك الصبي إذا أحس بتلك اللطمة في الحال يصيح ويقول من الذي ضربني ومن الذي لطم وجهي؟ ولو أن أهل الدنيا يجتمعون عليه ويقولون إن هذه اللطمة حصلت بنفسها من غير فاعل فإنه لا يقبل هذا القول ولا يؤثر فيه هذا الكلام، وهذا يدل على أن صريح العقل يستبعد حدوث تلك اللطمة من غير فاعل. فحدوث جملة الحوادث في عالم الأفلاك وعالم العناصر كيف يعقل حدوثها بلا محدث وفاعل؟ فصار هذا الاعتبار من أدل الدلائل على دلالة حدوث هذا العالم، وعلى وجود الصانع المدبر، وأما دلالة هذه اللطمة على المطلوب الثاني وهو كون الإله تعالى موصوفا بالأمر والنهي والتكليف. فنقول: إن ذلك الصبي إذا عرف أن ذلك الذي لطمه هو فلان فإنه في الحال يقول لم ضربتني وبأي سبب آذيتني؟ وهذا يدل على أن صريح عقله حكم بأن الخلق ما تركوا مهملين معطلين، بل التكاليف عليهم لازمة والمطالبات عليهم متوجهة، ولما حكم صريح عقل ذلك الصبي بأن تلك اللطمة الواحدة لا يجوز خلوها عن التكاليف والأمر والنهي، فأفعال كل الخلائق مع كثرة ما فيها من المصالح والمفاسد أولى بأن لا يجوز خلوها من التكاليف. وأما دلالة هذه اللطمة على المطلوب الثالث وهو حصول ذات الثواب والعقاب فنقول: إن ذلك الصبي إذا عرف أن ذلك الإنسان لطمه بغير سبب فإنه يطلب منه القصاص فإن عجز عن استيفائه استغاث بمن يعينه على تحصيل ذلك المطلوب، وهذا يدل على أن صريح عقله حكم بأن هذه اللطمة لا يمكن إخلاؤها عن الجزاء أو القصاص. فكيف يمكن إخلاء أفعال كل الخلق عن القصاص؟ وأما دلالة هذه اللطمة على المطلوب الرابع وهو بعثة الأنبياء عليهم السلام فهو أن الصبي إذا قرر أنه لا بد من القصاص فعند ذلك يطلب إنسانا يبين له ذلك القصاص بحيث يكون خاليا عن الزيادة والنقصان. وهذا يدل على أنه تقرر في عقله أنه لا بد في الخلق من إنسان يبين لهم مقادير المرغبات ومقادير الزواجر وذلك الإنسان ليس إلا الرسول، فظهر بهذا البيان أن هذه اللطمة الواحدة كافية في إثبات هذه المطالب الأربعة الشريفة العالية” .


ج) إن إيراد هذه الطرق الاستدلالية والبراهين بجانب دليل الحدوث الرسمي عند المتكلمين يؤكد بوضوح تام أن علم الكلام ليس ذلك العلم الضيق الذي كانت تتحكم في مباحثه تلك القواعد المعرفية الضيقة أو المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار الخاصة، مثل التشبت بإثبات الجوهر الفرد والخلاء وأن العرض لا يقام بالعرض ……إلخ. مع جعل هذه المقدمات من المسائل الواجب اعتقادها حصرا واعتمادا على القاعدة التي نادى بها أبوبكر الباقلاني وهي “بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول” .


بل سيعرف علم الكلام تحديدا وتطورا منهجيا وتوسعا معرفيا يهدف إلى التأسيس البرهاني بكل صوره وأساليبه، وسيصبح وسيلة هجومية بعد أن كان أداة دفاعية. وبعد ما كان المتكلمون يقتصرون في أغلب مباحثهم على قياس التمثيل أورد الغائب إلى الشاهد ومعناه “أن يوجد حكم في جزئي معين فينقل حكمه إلى جزئي آخر يشابهه بوجه ما” سيصبح بالإضافة إلى اعتماد أدلة الفطرة والوجدان مدعما بمنهج يتحدد في التمهيد لإدخال المنطق اليوناني بعد تنقيته من الرواسب المادية إلى دائرة البحوث الكلامية من طرف أبي المعالي الجويني، بعد ذلك سيقرره أبو حامد الغزالي بصفة رسمية في مباحث علم الكلام، بعدما أزيلت منه شوائب الفلسفة اليونانية واعتبر مجرد قانون ومعيار للأدلة تسبر به كباقي المعايير التي كانوا يستعملونها. ومن هنا خالفوا قول البقلاني “بأن بطلان الدليل مؤدن ببطلان المدلول”.فكانت هذه طريقة المتأخرين وهي مباينة نوعا ما لطريقة المتقدمين، وتميزت بالرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانية وجعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة ومذاهبهم. فكان أول من كتب في طريقة الكلام على هذا النحو أبو حامد الغزالي الذي صاغ موازين للمعرفة جعلها مناهج للأدلة مع الإبقاء على المقدمات العقلية التي أسس عليها الأشاعرة مباحثهم قبله، وأهم هذه الموازين أو المقاييس هي:


أولا: ميزان التعاند أو السبر والتقسيم وهو أن يحصر الأمر في قسمين ثم يبطل أحدهما فيلزم منه ثبوت الثاني: كقولنا العالم إما حادث وإما قديم، ومحال أن يكون قديما، فيلزم منه لا محالة أن يكون حادثا وهذا اللازم هو المطلوب، وهو علم مقصود استفدناه من علمين آخرين: أحدهما قولنا: العالم إما قديم أو حادث فإن الحكم بهذا الانحصار علم. والثاني قولنا: ومحال أن يكون قديما. فإن هذا علم آخر والثالث وهو اللازم منهما وهو المطلوب بأنه حادث.


الثاني: ميزان التعادل أو قياس الشمول: وهو أن ترتب أصلين على وجه آخر مثل قولنا كل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وهو أصل، والعالم لا يخلو عن الحوادث فهو أصل آخر، فيلزم منه صحة دعوانا وهو أن العالم حادث وهو المطلوب.


الثالث: ميزان التلازم (أو البرهان بالخلف): وهو أن لا نتعرض لثبوت دعوانا بل ندعي استحالة دعوى الخصم بأن نبين أنه مفض إلى المحال، وما يفضي إلى المحال فهو محال لا محالة .


أما المصادر التي يتبين عن طريقها لزوم الأصل المثبت فهي كالتالي:


1) العقل المحض 2)الحسيات 3)التواتر 4)أن يكون الأصل مثبتا بقياس آخر يستند بدرجة واحدة أو درجات كثيرة إما إلى الحسيات أو إلى العقليات أو المتواترات 5)السمعيات 6)أن يكون الأصل مأخوذا من معتقدات الخصم ومسلماته.


وبتوظيف القواعد الملتزمة عند المتقدمين والتطوير المنهجي عند المتأخرين سيتعضد منهج البحث في دليل الحدوث، وسيأخذ أبعادا تشمل الحصر العنصري والعددي والزمني والمكاني والجوهري والعرضي، كما ستدخل ورقة النهاية واللانهاية في ساحة البحث الكلامي كمحدد رياضي دقيق لطبيعة الوجود، وعامل حاسم في تقرير حدوث العالم وافتقاره إلى محدث أحدثه وخلقه، واحد في وجوده وذاته وصفاته وأفعاله. وكل هذه العمليات والاستنتاجات سيجدون لها أصلا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مما يعني التزام المتكلمين بالاستدلال على العقائد الإيمانية والحجاج عنها بالأدلة العقلية.


المطـلــب الثاني:دليل الحدوث والتصور العقلي للنهاية الكونية


وكاستعراض سريع لنماذج المباحث الكلامية المعتمدة على دليل الحدوث سأعرض لموضوعين رئيسيين في الموضوع وهما: تحديد عناصر الوجود وطبيعة كل موجود، سواء كان مرئيا أو غير مرئي، وذلك باستعمال قياس الغائب على الشاهد أو قياس التمثيل وقياس الشمول…إلخ، والموضوع الثاني مفهوم النهاية واللانهاية وتطبيقاتها على الموجودات بالاستدلال على حدوثها وافتقارها إلى محدث.


أولا) الموجودات وارتباطها سببا أو مسببا بالحدوث:


وينبني هذا البحث على القاعدة المنهجية الرئيسية في مباحث المتكلمين وهي: الجواهر لا تخلو عن الأعراض= الأعراض حادثة= مالا ينفك عن الحوادث ف

‫تعليقات الزوار

6
  • Bousati
    السبت 4 يوليوز 2009 - 06:51

    شكرا للاستاذ على مقاله الطويل العريض و لمجهوده البين. لكن في ماذا يفيد هذا المجهود؟ في لاشئ! تكرر بلغة مغايرة نفس الاشكالية التي طرحت منذ قرون بلا جدوى، لان لاموضوع فكري لها، او موضوعها هو اللامعرفة، ما يفيد الغوص في علم لا يفيد، في مسائلة غير محددة، مبهمة، مجردة. نخوض في مسائل عمومية لغولية لفظية غوغائية هذيانية كسحرة العصور البدائية و نريد تقبلها كحقائق و كاننا مجانين، و ننسى الجزئيات المحسوسة المادية القابلة للتجربة و الاستكشاف و التقنين و التحديد… و الا فكل واحد سيبني عالمه اللفظي المنسجم نحويا لا غير… فحتى الهذيان له معنى و منطق عند السيكولوجي…هل سنتقدم باخفاء فشلنا ببراعة لغوية ؟ لا ابدا ! المادة اقوى من الروح ! اجل. عوض التطرق لمشاكل انسانية محضة خارج الخطاب الديني الذي يقبل الشئ و نقيضه من قبيل : القانون، التاريخ، اللسانيات، الابستيمولوجيا، علم الجينات، الاقتصاد، الثقنية….الخ. الى متى ستستمر هذه المسرحية، و التلاعب بعقول الناس بما يسمى “الدين” و خطابه الفاشستي الترهيبي التخويفي القمعي النافي للحياة… علينا التشكيك في كل خطاب دعوي اخلاقي ديني… كفانا كم مرة خذعنا به تاريخيا… الا نتعض؟ لماذا لا يتم طرح الامور بشكل مباشر عوض اللف و الدوران و التحجج بالسنة و السلف الصالح و و و…متى نستقل فكريا ؟ عند مواجهتنا للمشاكل البسيطة اليومية نقف، نطلب مساعدة الصينيين او الكوريين او الاوروبيين… ننفي كل فكر و نبقى محصورين في ما قاله و ما عاشه آخرون في ازمنة غابرة و نعتبره مقدسا…

  • mans
    السبت 4 يوليوز 2009 - 06:49

    مقال صادم لكل ملحد وزنديق ضيق النفس وغير قادر على المتابعة العلمية الدقيقة.طبعا ستكون اعتراضات الغلمانيين الفاشلة كما هي العادة بأن هذا مجرد كلام، بينما المقال فيما قرأناه يعالج الوجود من كل جوانبه ويغوص بكل دقة في تفاصيله واحتمالاته،كما يتناول أعوص القضاياالتي ترعب كل ملحد ولا تتركه ينام بهدوء على ضلاله وتضليله ألا وهي مبدأ الوجود وحدود اللانهاية الكونية.
    فالمطلوب مناقشة مضامين المقال لاتقييمهجاهزياوإيديولوجيا من باب الفرار إلى منطق الشهوات والانفعالات والحريات الإباحية الناتجة عن الكفر والتسيب السلوكي واللاأخلاقي.
    ولقد كان الأولى بهسبريس أن تقسم الموضوع إلى مقالين حسب تقسيم الكاتب له وهما :المطلب الأول والمطلب الثاني حتى يمكن لضعاف الخفافيش وقراء صحافة الرصيف متتابعة مضامينه العميقةوالوعرة على الكسالى ومحبي التصورات الجاهزة.
    فهنيئا للأستاذ بنيعيش على هذا المقال الجامع المانع والمضني لكل خفاش قابع ولا يستطيع التبصر بما هو له نافع.وهنيئا لقراء هسبريس بهذا الطبق العلمي المجاني والشهي والمفيد بكل ما تحمله كلمة إفادة من معنى…

  • nasr
    السبت 4 يوليوز 2009 - 06:47

    لقد قدم الأستاذ بنيعيش للقراء ما كانوا يتشوقون له من براهين وأدلة تتفق عليها العقول والأذواق وكل حس سليم،في حين أن مقاله أو بحثه هذامع طوله المقصود قد جاء مهدما لمخططات إبليس والأبالسة الواهية والتي لا تستطيع أن تساير دورات الفلك وبداية الوجودأو نهايته ،وذلك لأنها متخلفة ومتوهمة وخرافية حينما تتصور الوجود يسير لوحده من غير موجه أو مبدئ معيد وذلك لكي تطعن كيأس في الدين وتنال من معارفه وحقائقه الغيبية كما يقول الله تعالى عن خلفياتهم:”بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة”.
    من هنا فقد جاء المقال ضربة قاصمة لظهر الإلحاد الذي لا ظهر أبقى ولا أرض قطع.
    فلا يمكن الحديث عن عالم الغيب قبل التطرق إلى صاحب الغيب ومالكه وهو الله تعالى خالق الأكوان.
    ففي بعض التعليقات الهوجاء التي تبدو من جنس تعليقات الأبالسة قد يعتبر البعض أن الموضوع قديما وغير مطلوب لدى الإنسان،وهذا مكر من الأبالسة لصرف القراء عن تحديد مسارهم ومصيرهم المحتوم والنهائي.
    في حين نرى أن الدكتور بنيعيش قد جس نبض التطلعات النفسية لكل كائن بما يعرف عند الفلاسفة بإيمان البخت والذي عبر عنه أبو العلاء المعري ب:
    قال المنجم والطبيب كلاهما
    لاتبعث الأجساد قلت إليكما
    إن صح قولكمافلست بنادم أو صح قولي فالخسار عليكما
    وهو ما سبق وعبر عنه المفكرون المسلمون -كالرازي – برعاية الأحوط
    وهذا من أجمل الحلول وأسلمها لكل ذي عقل سليم حتى يضمن النجاة لنفسه.
    لكن كما لا حظنا بأن بنيعيش يركز بالدرجة الأولى على الجانب العقلاني الدقيق والبرهاني بكل ما تحمله كلمة برهان من معنى ،بل قد ذهب إلى مناقشة مفهوم النهاية واللآنهاية من منطلق رياضي وعقلي كوني ،وهذا هو الأجمل والأدق في دراسته هاته.
    وعلى الجملة فالمقال مفيد كل الإفادة ودقيق إلى أبعد حدود الدقةحيث يعجز الفاشلون والمنهزمون معرفيا عن متابعة فقراته وبالتالي سيتبين ضعفهم وانحطاط مستواهم المعرفي الذي لا يجدون وسيلة للتعبير عنه إلا بالسباب والنقدالغوغائي واختزال المضامين في قولهم هذا مجرد سرد أو كلام في كلام أو غير ذلك من تعابير السوقة وغير المسؤولين معرفيا وأخلاقيا…

  • nasr
    السبت 4 يوليوز 2009 - 06:45

    لقد قدم الأستاذ بنيعيش للقراء ما كانوا يتشوقون له من براهين وأدلة تتفق عليها العقول والأذواق وكل حس سليم،في حين أن مقاله أو بحثه هذامع طوله المقصود قد جاء مهدما لمخططات إبليس والأبالسة الواهية والتي لا تستطيع أن تساير دورات الفلك وبداية الوجودأو نهايته ،وذلك لأنها متخلفة ومتوهمة وخرافية حينما تتصور الوجود يسير لوحده من غير موجه أو مبدئ معيد وذلك لكي تطعن كيأس في الدين وتنال من معارفه وحقائقه الغيبية كما يقول الله تعالى عن خلفياتهم:”بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة”.
    من هنا فقد جاء المقال ضربة قاصمة لظهر الإلحاد الذي لا ظهر أبقى ولا أرض قطع.
    فلا يمكن الحديث عن عالم الغيب قبل التطرق إلى صاحب الغيب ومالكه وهو الله تعالى خالق الأكوان.
    ففي بعض التعليقات الهوجاء التي تبدو من جنس تعليقات الأبالسة قد يعتبر البعض أن الموضوع قديما وغير مطلوب لدى الإنسان،وهذا مكر من الأبالسة لصرف القراء عن تحديد مسارهم ومصيرهم المحتوم والنهائي.
    في حين نرى أن الدكتور بنيعيش قد جس نبض التطلعات النفسية لكل كائن بما يعرف عند الفلاسفة بإيمان البخت والذي عبر عنه أبو العلاء المعري ب:
    قال المنجم والطبيب كلاهما
    لاتبعث الأجساد قلت إليكما
    إن صح قولكمافلست بنادم أو صح قولي فالخسار عليكما
    وهو ما سبق وعبر عنه المفكرون المسلمون -كالرازي – برعاية الأحوط
    وهذا من أجمل الحلول وأسلمها لكل ذي عقل سليم حتى يضمن النجاة لنفسه.
    لكن كما لا حظنا بأن بنيعيش يركز بالدرجة الأولى على الجانب العقلاني الدقيق والبرهاني بكل ما تحمله كلمة برهان من معنى ،بل قد ذهب إلى مناقشة مفهوم النهاية واللآنهاية من منطلق رياضي وعقلي كوني ،وهذا هو الأجمل والأدق في دراسته هاته.
    وعلى الجملة فالمقال مفيد كل الإفادة ودقيق إلى أبعد حدود الدقةحيث يعجز الفاشلون والمنهزمون معرفيا عن متابعة فقراته وبالتالي سيتبين ضعفهم وانحطاط مستواهم المعرفي الذي لا يجدون وسيلة للتعبير عنه إلا بالسباب والنقدالغوغائي واختزال المضامين في قولهم هذا مجرد سرد أو كلام في كلام أو غير ذلك من تعابير السوقة وغير المسؤولين معرفيا وأخلاقيا…
    وهذا هو هدف إبليس من شيطنته بأن يصرف الإنسان عن معرفة الله تعالى ويجره نحو الكفر حيث حذرنا الله تعالى بقوله:”كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين”.

  • derri weld lblad
    السبت 4 يوليوز 2009 - 06:53

    ((ولهذا فالقول بإمكان وجود العالم على مقابل ما هو عليه لا يعني أنه بإمكانه تصور ما هو أجمل من الكون الذي خلقه الله سبحانه وتعالى فهذا في حقنا مستحيل ومستبعد، ومهما توسع خيال الإنسان فهو لا يتخيل سوى تأليف بين عناصر الواقع ولا يستطيع أن يتخطى عالم المحسوس إلا برواسبه.ولهذا فنجد الخيالات العلمية سواء منها القصصية أو السينمائية المشخصة حينما تريد أن تتصور كائنات أخرى غير الكائنات الأرضية فإنها لا تتصورها إلا مشوهة وأدنى مما عليه الكائنات الأرضية الملموسة والمشاهدة وذلك لأن الواقع هو الأصل، والخيال هو الفرع والفرع يكون دائما أدنى وأقل من الأصل.))
    هذه الفقرة على روعتها تبين بالمحسوس و الملموس كم هي الأشياء فعلا قريبة منا و لا نعتبر … الواقع هو الأصل، والخيال هو الفرع والفرع يكون دائما أدنى وأقل من الأصل .و هذا هو الواقع .

  • البوشاري عبدالرحمان
    السبت 4 يوليوز 2009 - 06:55

    تحية السلم والمسالمة وسلام تام بوجود مولانا الامام حامي حمى الملة والوطن والدين وامير المؤمنين ورئيس لجنة القدس الشريف جلالة الملك المعظم محمد السادس اعزه الله وبعد
    في القران الكريم اية كريمة تدون ما ارتكز على علم المنتهى لعلم الحساب ابحثوا عنها الى حين ان اعود لاوضح لكم اكثر وليعلم اهل العلم ان في الدنيا يوجد علم المنتهى للحساب واما اللا منتهى فهو في الاخرة،وعندها قترنموا بين المنزلتين التي يشاءها احدنا من هدا المنتهى والا منتهى،،، ساعود لاوضح وشكرا

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42 6

جدل فيديو “المواعدة العمياء”

صوت وصورة
"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:15

"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا

صوت وصورة
بيع العقار في طور الإنجاز
الإثنين 15 أبريل 2024 - 17:08 4

بيع العقار في طور الإنجاز

صوت وصورة
مستفيدة من تأمين الرحمة
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:35

مستفيدة من تأمين الرحمة

صوت وصورة
مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:28 8

مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير

صوت وصورة
تألق المدرسة المغربية لعلوم المهندس
الإثنين 15 أبريل 2024 - 15:55

تألق المدرسة المغربية لعلوم المهندس