نهاية مواطن

نهاية مواطن
الخميس 18 أبريل 2019 - 17:16

يتسابق الركاب نحو الطاكسيات. تمتلئ سيارة المرسيديس البيضاء. يوزع خمسة ركاب مقعدها الخلفي المصمم لثلاثة. تقتسم شابّتان المقعد المجاور للسائق. يأخذ السائق مقعده. يرمي ما تبقى من لفافته السوداء وسط الطريق. ينفث دخان رئتيه الكثيف في أنوف الركاب. يستنشقون في صمت.

يدير المحرك. تنطلق السيارة. تتكدس الأجساد. تتآلف. تحتل امرأة بدينة الرُبع الأيسر للمقعد الخلفي. يتشبث رجل ضخم بالجانب الأيمن. يُعصَر الجالسان في الوسط. يُدفع الشاب النحيل “سين” بقوة نحو حاجز حديدي. يرمي أذنيه نحو المذياع. يصغي إلى طبيب إذاعي مختص في كل الأمراض. ينصت. يصدق. يستمر في الإنصات، في البحث عن علاج لآلامه الموجعة.. لا يدري “سين” مصدر الألم: المعدة؟ الأمعاء؟ الكبد؟ الطحال؟ أشياء أخرى لا يعرفها في جهازه الباطني؟ يُدمن “سين” الوصفات الإذاعية. يستمر الألم.

تستمر السيارة في جموحها. تجتاز يمينا، تجتاز يسارا. يضاعف السائق عبثه بالبضائع البشرية. ينعطف يمينا نحو سوق الأربعاء. تنتهي رحلة المخاض. ينزل الركاب. ينزل “سين”. يمطط جسده. يسوي ثيابه. يجيل النظر. يتراءى له السوق بين الحقول. يتجه نحو المدخل. يختلط بالحركة النشيطة. حمير، عربات، جرارات، دراجات، مشاة.. يدقق النظر في مركز القوات المساعدة، في الراية الفريدة. بضع مْخازنية ورجال درك، تائهون في الزحام، هائمون مع إيقاع السوق.

يجتاز “سين” الباب الوحيد. تتناهي إلى مسمعه أهازيج، أغان شعبية، هتاف، صراخ، صياح. مكبرات أصوات. يسرع الخطى. تتسرب إلى أنفه روائح مثيرة [ إسفنج، شواء لحوم حمراء، اسماك.. روت حيوانات ]. لا يبالي. تغرق قدماه في الممرات الموحلة. لا يهتم بما حوله. جزارين، خضارين، عطارين، بائعي الأفرشة، الألبسة. لا يبالي. يمر بالباعة، الحمالين، المتسولين. جباة الرسوم]. لا يبالي. يتناهى إلى سمعه صوت بائع المبيدات. لا يبالي. يبلغ هدفه. يستعيد أنفاسه. يقف أمام بائع الأدوية. ينصت: ” العلاج هنا. الصداع، المفاصل، آلام الصدر. البْرودة. قرحة المعدة. التهاب الأمعاء. العجز لا حياة في دين..” . يتحسس “سين” خريطة جسده. يلتقط كل صوت، كل رشة ريق. يتتبع خيط الميكروفون نحو البوق المعلق في السيارة، الصيدلية المتنقلة. ينظر بتلهف إلى الطاولة. [علب أدوية ورقية، علب زجاجية بدون وسم. كتب طبية إغريقية. جداول ]. يرتاح “سين” للكتابة العربية على بعض العلب. يطرح مشكلته بإسهاب. يفتح الطبيب إحدى الحقائب الجلدية السوداء. يستخرج كيسا بلاستيكيا. يصب مزيجا من طحين غريب. يتناول “سين” ملعقة من يد بائع الأدوية. يبتلعها مع جرعة ماء. يأخذ ما تبقى من الطحين العجيب. يدفع الثمن. ينصرف.

يسرع “سين” الخطى. يعطي الدواء مفعوله. ترتفع حرارة جسده. يتصبب عرقا. تزداد الحرارة ارتفاعا. يشعر بالغثيان. بالدوار. تتثاقل خطواته. يزداد الألم. يصر على المشي. تزداد خطواته تثاقلا. يجر قدميه. يعجز. تتسمران في الأرض. يجثو على ركبتيه. يشتد خفقان قلبه. تُغمض عيناه. يهوي على الأرض. ينغرس جسده في الوحل. يتسابق المنقذون. يعجزون. يتطوع صاحب عربة حمارية. يحمل الجثمان. تأخذ العربة طريقها نحو.. اللّاوَطَنْ.

‫تعليقات الزوار

5
  • Peace
    الخميس 18 أبريل 2019 - 18:12

    ههههه فعلا مقال جميل.

    الرحلة الى سوق الاربعاء على مثن طاكسي كبير تعتبر مغامرة, لانك ستحس بنفسك انك تائه بين الاجساد و الاصوات و الروائح المختلفة و الغبار و الوحل و قد يغمى عليك فجاة و يعطونك دواء مجهول المصدر, فتموت و تحملك عربة حمارية الى امثواك الاخير فيغسلك و يكفنك و يدفنك هناك ناس مجهولين و انت لازلت تسمع لاصوات مختلفة تقرا عليك القران و الصلوات الاخيرة و تشم رائحة الموت ممزوجة بماء الزهر و رائحة التراب و الكسكس.

  • BAT MAN
    الخميس 18 أبريل 2019 - 19:51

    أخبرني رئيس شرطة حضارية في منطقة من مدينة الدارالبيضاء أن كثير من سائقي الطاكسي الكبير الأبيض يتناولون بعد الفطور حبتين من مخدر القرقوبي مع كأس ريبي جميلة كي لا يشعر بما يجري حوله أثناء السياقة فماذا تنتظر من سائق من هذا النوع وشكرا

  • خالتي الحبيبة .
    الخميس 18 أبريل 2019 - 20:12

    ماذا قدمت لنا فرنسا غير الشقاء !!! هذه متلازمة خالتي ، ولسان حالها . لاشيء غير الغربة ، والبعد عن الوطن . ورغم أنها خالتي ورغم أني أحبها أقول "قتل الإنسان ما أكفره" خالتي هذه كانت فقيرة معدمة وكان حالها من حال زوجها ، كانوا جميعا عالة على جدتي لأمي ، حتى سافر زوجها وأرسل في إثرها . ولأنها مغربية من الزمن الولود فقد أضافت على وحيدها هنا ، سبعا هناك . وفي سن الأربعين أصيبت بفشل كلوي فاستفاذت من حصص للتصفية ، وبالمجان في الوقت الذي كان هذا المرض لاعلاج له في المغرب إلا في مصحتين أو ثلاث على كل الصعيد الوطني وبكلفة علاج لايطيقها إلا الأثرياء . بعد ذالك بسنوات استفادت من عملية زرع للكلي مع ما يرافقها من تكاليف المتابعة والمراقبة والتطبيب ، زوجها هو الآخر استفاد من عملية قلب مفتوح وتكلفت بنقله طيارة خاصة أو ما يشبه سيارة اسعاف طاءرة ، من هنا باعتباره مواطنا فرنسيا ، إلى حيث أجرى العملية بنجاح ، رغم أنه لم يكن أكثر من مياوم أجير … يتبع

  • خالتي الحبيبة .
    الخميس 18 أبريل 2019 - 20:15

    ….. هذا دون الحديث عن حصاد الممتلكات والمنزل الفسيح والسيارات والعمل القار لكل الأبناء ، والزواج لكل البنات رغم الذمامة التي تخر صاغرة لها الرقاب الحالمة بالفردوس الأوروبي . خالتي آسف ولكنك تدينين بثلاثين سنة من عمرك لدولة المهجر ، فليس لكل أجل كتاب . خالتي لقد كنت شاهدا على رقصك وتمايلك في كل زفافات أبناءك وبناتك خالتي لقد كنت حاضرا وأنت تداعبين أحفادك والحفيدات ، خالتي أنا آسف ويحز في نفسي أن أقول ….. ولكنك لاتشكرين ….. انتهى

  • لحريزي
    الجمعة 19 أبريل 2019 - 11:11

    ما يميز الكتابة عند الأستاذ محمد طروس هو هذا الأسلوب السينوغرافي المتميز و الذي يؤثت بواسطته المشاهد بطريقة تصويرية بديعة و دقيقة. وانا اقرأ نصه هذا و كأني في جولة فنية درامية تقدم المشاهد بحس تصويري خالص و صادق بنفس الشكل الذي تقدمه عين الكاميرا التي لاتخطيء ادق التفاصيل. طوبى لنا بسينوغراف مثلك.

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 7

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال