قراءة في أحوال المجتمع المغربي

قراءة في أحوال المجتمع المغربي
الأحد 16 غشت 2009 - 12:18

في معنى “البؤس الفرح”


“إنه القحط.. مرة أخرى ! وفي مواسم القحط تتغير الحياة والأشياء، وحتى البشر يتغيرون، وطباعهم تتغير، تتولد في النفوس أحزان تبدو غامضة أول الأمر، لكن لحظات الغضب، التي كثيرًا ما تتكرر، تفجّرها بسرعة، تجعلها معادية، جموحًا، ويمكن أن تأخذ أشكالاً لا حصر لها”. “عبدالرحمن منيف، نهايات”.


مقدمة:


ترددت كثيرا قبل أن أحرر هذه الورقة حول أحوال المجتمع المغربي، نظرا لأسباب عدة، أجملها في تعقد الظاهرة المغربية، (نشير هنا إلى أن الإنسان ظاهرة معقدة و شمولية، لكن الإنسان المغربي له خصوصية في هذا التعقد)، حين يتحول المجتمع المغربي من حالة التناقض و التنافر و المفارقة، إلى حالة الزئبقية و الغموض، الشيء الذي يُصعب مهمة الباحث. هذا الأمر يجعلني أقر، منذ البداية، بأن مساهمتي، تأتي فقط كمحاولة للدخول في رهان الفهم، “فهم المغاربة كأفراد و جماعات، عبر بناء مجال المعرفة، التي من شأنها أن تسهم في خلق تواصل ثقافي و اجتماعي ممكن.


والتساؤلات التي أنطلق منها في هذا العمل هي كالآتي: إلى أي حد يمكن أن نقول، إن المجتمع المغربي يتغير أو يتحول أو هو في مرحلة تطور أو تراجع ؟ هل ما يحدث في المغرب حاليا، يعتبر مرحلة انتقالية نحو محطة مغايرة، كما يقول البعض، أم أن ما يقع في مغرب اليوم، هو مجرد لحظة انفصام مغربية قوية، لم تتضح معالم تشخيصها بعد؟ من يقدر على فهم الفرد و الجماعة في المغرب، في ظل تناقضات و مفارقات تغرق المجتمع كل يوم وتربك التحليل؟ هل ما يحدث داخل المجتمع المغربي على مستويات عدة، هو وليد اللحظة، أم نتيجة تفاعلات ما بعد مرحلة ” الاستقلال”، أم أن الأمر مجرد أعراض لأمراض اجتماعية، لها جذور في ماضي المغاربة التاريخي؟


في معنى “البؤس الفرح”


قبل كل شيء، إن الظواهر التي بدأت تنتشر في المجالات الاجتماعية المغربية، تقدم لنا مادة أولية، يمكن أن نخضعها للملاحظة السوسيولوجية، مستأنسين بالقراءات العلمية، و “التأويلات الرائجة”،إعلاميا و سياسيا ، والتي تحاول فهم أحوال المجتمع المغربي. هذه القراءات والتأويلات تقدم لنا المغرب، إما في إطار صورة جميلة و فرحة، و إما كصورة للبؤس و الأزمات، لكن وراء الصورتين / الخطابين، يكمن واقع مغربي آخر، غريب جدا، ويجمع مفارقات عدة. ففي قلب الحياة اليومية للسواد الأعظم من المغاربة، تظهر علامات التمزق الاجتماعي، و على سبيل المثال لا الحصر، العديد من المغاربة، يتوفرون داخل بيوتهم على الأدوات التقنية والتكنولوجيا (التي يصدرها الغرب المتطور)، ويستهلكون ما تنتجه العقلانية في أوروبا و آسيا و أمريكا، كالصحون اللاقطة، والشاشات العصرية، وعدد لا يحصى من الأدوات التي يستعملونها يوميا، لكن نسبة مهمة منهم، لا يتوفرون على أدنى شروط الحياة البيولوجية، كغياب المراحيض الصحية، ضيق مكان الممارسة أو الاستمتاع الجنسي، …الخ . ونعلم جيدا أن المكان و الفضاء داخل الأسرة، يلعبان دورا مهما في التوازن النفسي و الاجتماعي لأفراد الأسرة، حسب أبحاث ودراسات عدد من المختصين. السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن تحقيق هذا التوازن في ظل اختلال جنسي أسري؟


إن الممارسة الجنسية ضرورة ذات دلالة، و لها أبعاد متعددة ترتبط بالمقدس و اللذة. “فالاتحاد الجنسي، ما هو إلا لذة صغرى بالمقارنة مع اللذة الكبرى، لذة الاتحاد بالله، لذة الفناء في الله. استمرارية عميقة في المقدس بين النكاح والصلاة، نجد تعبيرا واضحا عنها في “فصوص الحكم” لابن عربي”.( انظر عبدالصمد الديالمي، في ذكورية المدينة العربية الإسلامية) .


إن الحيز المكاني ونقصد به الدار أو البيت أو حتى فضاء المدينة أو القرية، مهم للغاية، وعندما يضيق مجاله ، تضيق معه المتعة و الراحة الجنسية، وهو الأمر الذي يؤثر على السلوك الفردي و الجماعي، فالعلاقة بين المجال و الجنس علاقة لا شعورية، تتجلى في وقائع و علامات المجتمع. “فالكثير من المساكن الحضرية ليست وظيفية جنسيا، بمعنى أنها لا تسمح بإشباع الرغبة الجنسية على أكمل وجه. لماذا؟ لأن مسلسل التحضر لم يعن سوى تقلص حجم المسكن، ولم يعن تقلص حجم الأسرة. فالإحصاءات الوطنية المتتالية، بينت أن الأسر الكبيرة الحجم هي الأكثر عددا، وأنها في تصاعد مطرد، الشيء الذي يناقض منطق التحضر في معناه السوسيولوجي… إن مسألة الاكتظاظ في الغرفة الواحدة، تأخذ بعدا أخطر عند ربطها بالممارسة الجنسية. كيف يتم اقتسام مجال المنزل ليلا؟ من ينام مع من؟ هل يتمكن الزوجان من الاختلاء؟ هل يسمح الاكتظاظ بحميمية زوجية كاملة؟” (انظر بهذا الخصوص كتابات و أبحاث حول موضوع الجنس، د. عبدالصمد الديالمي).


هذه الورقة لا تدعي الجواب الكافي و الشافي، عن سؤال أسباب وصول المجتمع المغربي إلى هذه الحالة من التمزق الاجتماعي، بل هي مساهمة أولا، في بناء مجال المعرفة حول هذا المجتمع ، وثانيا مساءلة الممكن، و المشاركة في تأسيس إدراك موضوعي للمجتمع المغربي الذي يظل ، في عدد من حالاته، عصيا على الفهم، و في غياب الفهم الذاتي، يستحيل أن يسود التنوير داخل المجتمع، على حد تعبير الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، الذي يجيبنا عن كيف يمكن للإنسان أن يخرج من قصوره، ويقدر على استخدام فهمه دون قيادة الغير.( راجع نص: ماهو التنوير،؟ لإيمانويل كانط).


إن الجمع بين كلمتي ” البؤس و الفرح” في الذات والصفات المغربية الواحدة، الغرض منه التعبير عن الوجه المعقد جدا، و المتشابك للمجتمع المغربي، و هذا الأمر يفهم إلى حد ما، عند ما نربط الحالتين “بالضياع” الذي تطبع العديد من أوجه المجتمع. وأعني بكلمة “ضياع” حالة “اللافهم” العسير التي تسكن الذات المغربية، في مقابل حالة “الفهم الواضح” الذي يسمح نظريا على الأقل، بالحديث عن مفهوم “الأزمة”.


وبما أن الهدف هو إدراك الطوق المفقود، لابد من توضيح هذا الجمع الغريب بين بؤس المغربي (مؤشراته هي ارتفاع نسبة الفقر و الأمية، وهبوط معدل النمو، و غياب شروط البحث العلمي، و تراجع القراءة بشكل فضيع في صفوف الشباب، انحصار حرية التعبير، ضعف الثقافة الصحفية مهنيا و أخلاقيا، تخلف التربية و التعليم، وتراجع معدلات التنمية…الخ)، و فرحته الظرفية التي يعبر عنها في مناسبات عدة، و كأنها قاعدة تؤسس سلوكه اليومي. (يمكن ملاحظة حالات الابتهاج المغربي أمام شاشات التلفزيون، في الشارع، في تجمعات ولقاءات الأفراد و الجماعات…الخ ). وإن وظفنا لغة الفيلسوف “رينيه ديكارت”، يمكن القول، إن هذا التكيف و الانصهار الشقي للفرد المغربي، يقع داخل مجتمع يضمر الجوهر ويظهر العَرَض.


الأشياء و الظواهر التي تحصل في المجتمع المغربي على مستويات سيكولوجية واجتماعية و اقتصادية و إعلامية تدفع الباحث، ليس فقط إلى إخضاع الوقائع إلى التفكيك و إعادة البناء، بل النظر كذلك في هذه الذات المغربية، كدليل (بالمعنى اللساني) على وجود شروط ما تؤسسها، و نعني بذلك، أسباب تشكل “الضياع المغربي ” كظاهرة اجتماعية. ويمكن في هذا السياق، التفكير مثلا في تأسيس “سوسيولوجيا الضياع” ،كتخصص يعنى بدراسة هذه الظاهرة. عمل من هذا القبيل، لا يتأتى، إلا بالابتعاد عن تلك النظرة التي يلفها إما الحنين، و التأسف على ما كان كفردوس مفقود، من قبيل القول بتاريخ المغرب المجيد و العريق، أو الفرح الذي يطبع قراءات متسرعة ، تحاول تناول مشاكل و عوائق المجتمع المغربي، بطرق غير علمية وبإفراط، كأن يقال “بأن كل شيء على ما يرام”، إنها مرحلة انتقالية… الخ. هذه “القراءة الفرحة” تشترط محددات علمية من بينها، أن الانتقال من مكان إلى مكان، يتطلب معرفة نقطة الانطلاق. وفي نفس “السياق الفرح”، هناك لجوء اجتماعي مغربي إلى خطاب ماضوي، يكثّر من توظيف “فعل كان”، و يغرق الذات في دوامة فكرية و إيديولوجية… يجب في نظرنا المتواضع، التوجه أكثر فأكثر إلى تكوين رؤية موضوعية، بما تحمله هذه الموضوعية من حدود، و نقف عند ملامح الأشياء و الظواهر المغربية التي يفرزها المجال الاجتماعي. صحيح، إن تنوع وتعقد مكونات المجتمع المغربي الثقافية، يجعل من المغرب جديرا بالاهتمام النظري و العملي، و لعل من بين أهم المجالات التي من الممكن أن نرصد من خلالها أحوال وأهوال المجتمع، هو تلك الصورة التي تبنى حول شخصية المغربي (البناء للمعلوم و للمجهول). و نقصد بهذه العملية، ذلك البناء الاجتماعي للواقع/الصورة( هناك توجه نظري في مجال “سوسيولوجيا المعرفة” يدعى “البناء الاجتماعي للواقع”، و أسسه الألمانيان “بتير بيرغر وتوماس لوكمان” بعد إصدارهما لكتاب في الموضوع عام 1966).


إن الكلام عن الصورة التي تؤسس تمثلاتنا ورؤيتنا للمغاربة، لابد و أن يستحضر ماهية الصورة ووظائفها المختلفة و المتعددة، وبدونها لا يمكن تفكيك ما يقال و يكتب عن المجتمع المغربي. لابد من التذكير بأن دلالة الصورة إشكالية، فعندما نستعمل هذه الكلمة، مثلا في اللغة الألمانية الغنية بتراكيبها، نجدها تشير إلى لفظ Vorstellung و يعني ذلك ” التقديم و التعريف و العرض و التصور و التخيل” (Götz Schregle, 1355) . الصورة ترتبط كذلك بمعاني مغايرة، فهي تحيل على الشبح، النظرة، السيمولاكر و التمثل . “إنها عبارة عن إنتاج حسي أو ذهني، و هي تقدم لنا معنى للمشاهدة، حسب الفيلسوف فولتير . إن تمثل الصورة الحسي يبنى على نشاط العقل، و يرمي إلى تشكيل فكرة مجردة “( لالاند، ص464-467) .


الكلام عن بناء الواقع المغربي، لا يمكنه أن يستقيم على مستوى الإدراك و الفهم، إلا عندما نأخذ المتغيرات الكونية بعين الاعتبار و على رأسها، زخم الصور التي تحاصرنا في كل مكان ، الخاص منه و العمومي، والتي بدأت تؤسس جانبا مهما من الشخصية المغربية. لم نعد كما كنا قبل عشرين عاما، حين كانت المعلومة و الخبر يخضعان لرقابة شبه مطلقة، لكن في ظل المتغيرات العلمية و التكنولوجية التي أتت بثورة رقمية، وبإمكانيات جديدة في التواصل البشري، أضحى تضخم المعلومة واقعا يوميا، يتجاوزنا كذوات و كمجتمع، بل يزعج في أحيان كثيرة الإدراك و المعرفة و الفهم.


وإذا أردنا أن نبحث في مفاهيم و دلالات المتغيرات، و الثوابت التي تطبع صورة المجتمع المغربي، قصد التوصل إلى دقة المعنى و صفاء الفهم، لابد لنا من أن نزاوج بين إنصاتنا إلى خطاب العوام، كلاما و لغة ، و قول الثقافة العالمة، حتى نبلغ إلى المقصد، ونرفع الستار عن رائحة الحيرة، التي تنبعث من أفواه المغاربة . هناك معطيات ثقافية مهمة، يمكنها أن تنير لنا الطريق، لتشخيص أبعاد السؤال حول طبيعة المجتمع المغربي المغرية للبحث.


عندما نمعن النظر في الخطابات المتداولة، نلمس ما يعانيه المغاربة من غموض و قلق و إحباط (القلق و الإحباط بالمعنى التحليل نفسي). فمن الطبيعي أن تحس الفئات المسحوقة بالغبن و بالتذمر، عندما تنظر إلى الفئات المحظوظة، التي تتسع سلطاتها الاجتماعية(السلطة هنا بمعناها المادي و الرمزي). هذا الوضع يولد لا محالة، مجالات اجتماعية مطبوعة بالتمزق. فالذات المغربية بدأت تنطق جملا مبعثرة، و بلغات و لهجات مختلفة، و ترى العالم برؤى متناقضة، و مفارقة أحيانا، وتلبس ألوان تفتقد إلى المعنى، و تجهل السبب، في ما حصل و يحصل في اليومي من مظاهر ووقائع. أما تاريخ المغربي فهو مليء بعلامات تجمع بين الاستغراب والمفارقة، فهو” تاريخ الأنفة و الاستقلالية، و الموت من أجل الأرض والعرض، و هو في الآن نفسه تاريخ التبعية و الخضوع، و احترام التراتبيات الدينية و السياسية “(راجع مقال نورالدين الزاهي، المغاربة و الاحتجاج، ص10) . فهل يمكن القول، كما عبر عن ذلك الفيلسوف كانط ، “إنه لمن المريح جدا أن يكون المرء قاصرا . فالكسل والجبن هما السبب الذي يجعل طائفة كبيرة من الناس يظلون، عن طيب خاطر، قاصرين طوال حياتهم، حتى بعد أن تكون الطبيعة قد حررتهم، منذ مدة طويلة، من كل قيادة خارجية، والذي يجعل آخرين ينصبون أنفسهم بسهولة أوصياء عليهم”. (راجع نص: ماهو التنوير؟ لإيمانويل كانط، في طبعته الأصلية و ترجماته إلى العربية و الفرنسية )


وفي الوقت الذي أضحت فيه الذات المغربية تجهل الموجود قبل الوجود، و التاريخ قبل الجغرافيا، أي و باختصار شديد، تعيش حالة فقدان لمعنى الوجود الاجتماعي، نجدها تحاول الخروج من بوتقة الضياع و التمزق الكائن بين احتفالية الفرح ولعنة البؤس. إن الكلام عن هذا النوع من الاغتراب، تؤكده أرقام و وقائع ودراسات علمية، و كذا الملاحظة العينية التي تفي بالغرض، وتلبي حاجة الفهم، الشيء الذي أوجب مساءلة أصول ومعاني الضياع المغربي(على سبيل المثال، تقارير المنظمات الدولية في مجالات التنمية و حقوق الإنسان، ودراسات العلوم الإنسانية المغربية و الإستشراقية حول المغرب).


بول باسكون مثلا يقدم لنا نموذجا دالا عن حالة التمزق المغربي، ويسمح لنا بالغوص العميق في بنية المجتمع ، و الأمر يتعلق بالحكاية التالية: “شاب يحمل شواهد، ويرتدي بذلة عصرية، ويتلفن إلى مسؤول إداري. إنه ينطق بكلمات عربية، ويوصي بتشغيل فلان بالفرنسية، ولكنه أمام تحفظات المسؤول يعاود الكرّة بثلاث حجج، إنما بالعربية هذه المرّة: إن قريبا للشخص المقترح قد فقد عمله، وأن العائلة أصبحت بدون مورد، وبأنها تنتمي إلى قبيلة من وسط المغرب… ولكنّه يواجه في الأخير، برفض مبني على القانون، هذا دون أن تكون مؤهلات المرشح قد ذكرت. وبإمكاننا إيراد أمثلة أخرى إلى ما لا نهاية: فكلّنا يجرّ وراءه جلبة التاريخ ومخلفاته”( بول باسكون،”طبيعة المجتمع المغربي المزيجة”).


ينبهنا الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، إلى شيء أساسي وهو، “أنه ليس لنا الحق في قول كل شيء، و لا الحديث عن أي شيء في أية مناسبة “( فوكو، ص 9) . و إذا كان م. فوكو، يتحدث عن المجتمع الغربي بهوامشه الديمقراطية الضيقة و العريضة، فكيف يمكن التحدث والكلام عن مجتمعات، مازال فيها الرأي المخالف لما هو سائد أو مكبوت اجتماعيا، يشكل نشازا، و خطرا يؤدي بصاحبه إلى سلسلة من العقابات الاجتماعية والسياسية المتنوعة و المختلفة، في مجتمع أضحت فيه العصبية القبلية،” لربما أقوى مما كانت عليه في العصر الجاهلي نفسه. “( الجابري، ص59). وسؤالنا الأساسي في هذا الإطار، هو حول المغزى من وراء هذا النوع من الانغلاق، الذي يجعل في أحد وجوهه، المغربي غريبا عن وسطه، و حلمه في الحياة. إنه يستورد بضائع يجهل مقوماتها العقلية و أسسها الثقافية، (بحكم الفارق المعرفي و الثقافي و الحضاري بين المجتمع المغربي و المجتمعات في الغرب المتطور)، أما لسان حاله فيقول، وكما عبر عن ذلك ببلاغة قوية برهان غليون :” ليس هذا الزمان زماني فأنا فيه وحيد ، و ليس في هذا المكان مكاني، فأنا عنه غريب “( غليون، ص107).


و إذا كان النطق بالأحكام دون معرفة الشروط و الأسباب، يعد عملا فاشلا، فإن البحث عن جذور شقاء الوعي ومحنة المغربي، تظل مهمة آنية لا محيد عنها، للفهم و التحليل، و بلوغ نوع من الاطمئنان الفكري. مهمة من هذا النوع، لا يجب أن ترهنها تلك القوة الجامحة، لرد كل تخلف إلى الاستعمار أو الغرب و مآسيه، فأسباب الضياع المغربي منغرسة في التاريخ و الوعي الفردي و الجمعي، أما هذا الغرب الذي يلعنه الكثير، ” فيشكل في العالم مشكلة تتحدى بذاتها الوعي العربي و تمزقه، فهو المسيطر و المهيمن، و الجبار المتكبر الذي لا هدف له سوى الإطباق على الشعوب، و نهبها و تدميرها “( غليون، ص107). إن السقوط في الأحادية، هو محاولة لتبرير الواقع و بناء إيديولوجي للمأساة. أما تضارب الأفكار و الآراء التي مازالت سجينة ثنائية “غرب /شرق” (المغلوطة، تاريخيا و جغرافيا و حتى حضاريا)، لا يمنع من طرح جريء للسؤال الإشكالي التالي: هل ما يرزح تحته المغاربة اليوم، وليد حاضرهم أي منذ القرن الماضي لحد الساعة، أم أن محنتهم ترتبط بتراكمات تاريخية قديمة ؟


يدفعنا فضولنا المعرفي، عند قراءة متأنية في حركية الإعلام المغربي منذ مرحلة “صحف المعمر” إلى الآن، نحو التساؤل مرة أخرى، حول جدوى ومعنى “الضياع المغربي”، الذي أغرق الذات المغربية، في ظل سياق رأسمالي جارف. الكلمات و الألفاظ و الألقاب والممارسات، أصبحت في متناول أغلب الأفراد، وهي تغلّف كل المعاني الأصيلة بمفردات ممسوخة، فأضحى “الفن” و صفة “فنان”، مثلا، على ألسنة عدة، إلى درجة الابتذال. إن الفن عند الفيلسوف هيجل، ليس مجرد استنساخ وتقليد، بل هو أكثر من ذلك، إنه يعبر عن العقل ويجسد الحقيقة كمثال. الفن والإبداع، لا يختزلان في أحاسيس أو عواطف أو حتى في موهبة ما. إنهما يمثلان فلسفة و تصور و تاريخ و إستراتيجية ثقافية و سياسية، يحاور بواسطتها مجتمع ما غيره. فكيف يتم الحوار الثقافي، و ضياع الذات ما زال منتصبا ؟


المتتبع للحركة الثقافية و الفنية المغربية، يستشف أن حركة الأجساد غابت عنها حروف الجمال، و حل محلها طوفان من صور هستيرية، تستنطق الشهوات، و تستجيب لرغبات حيوانية، لا تفعل ولكنها تنفعل. الجسد المغربي كمثيله في بلدان المغرب العربي يحمل دلالات معينة، إنه ، وكما يقول مالك شبل،” جسد نصي متمفصل حول حركات متنوعة و كلية، تستدعي بعض التدقيقات… الجسد هو ظاهرة ثقافية أبعد من أن تكون محايدة” (شبل، ص47). فالجسد الضائع و المستقر، يعبر عما يعتري المجتمع من خفايا ، و صمت ومسكوت عنه في داخل المجتمع الواحد .


الفن لا ينفصل عن الفعل الثقافي المغربي. وبوابة هذا الفعل، القراءة، كقضية تواجه المجتمع المغربي اليوم، فنحن نلاحظ الضعف و التراجع عن الإطلاع، في وقت ما زالت فيه الأمية (أعني هنا الأمية الأبجدية و ليس أنواع الأمية الأخرى ) تنخر جسد المجتمع المغربي. فبعض الأرقام تقول إن “نسبة الأمية عالية في صفوف المسنين، حيث تصل الى54 في المئة، أما في صفوف النساء فتصل إلى 46 في المئة. “(محمد – صغير جنجر، جريدة لوموند). القراءة سند لكل كتابة، والعكس صحيح، فالكتاب شهادة حية على الوجود الإنساني و دليل على الحضور الأبدي. و تقدم الشعوب يقاس بمدى قراءتها، و إطلاعها اليومي على ما يكتب ويقال في حقها و في حق الآخر. قيمة الكتاب نعثر على أثرها في متون أمهات الكتب، و الجاحظ في “المحاسن و الأضداد” يذكرنا بحكمة القراءة و الكتاب الذي يحفظ البنيان، و كل ما يتركه السلف للخلف، قائلا، إن “تصنيف الكتب أشد تقييداً للمآثر على ممر الأيام والدهور من البنيان، لأن البناء لا محالة يدرس، وتعفى رسومه، والكتاب باق يقع من قرن إلى قرن، ومن أمة إلى أمة، فهو أبداً جديد، والناظر فيه مستفيد، وهو أبلغ في تحصيل المآثر من البنيان، والتصاوير…فأين موقع الكتاب و القراءة من جملة مجتمع يشاهد أكثر مما يقرأ؟


إن وضع المغرب الثقافي الآني، لا يمكن أن يقارن بمرحلة السبعينات، و الثمانينات، التي كان فيها الكتاب و الفن و الحركة الثقافية، و كل المطبوعات الثقافية المتخصصة، تلعب دورا رائدا في تنوير الرأي و إشاعة روح الإبداع الأصيل. لقد راحت هذه الحقبة الثقافية، وأقبل مغرب آخر، لذلك قيل عن “الفرق بين زمن الأمس و حال اليوم”، ” إن المغرب ضيع الوقت سياسيا كما هو الأمر ثقافيا”. (يمكن العودة إلى مقال عادل حجي، جريدة لوموند ديبلوماتيك، ص 24-25).


لا نشك في أن القراءة و الجهل لا يلتقيان، إلا في مجتمعات فقدت معنى وروح الإبداع، و تجهل أصوله التاريخية و الفلسفية. و الحال في المغرب و في بقية البلدان العربية لا يخرج عن هذا السياق. وهكذا يرتسم مشهد نحن معاصروه،” لنعاين أن اليد الطولى، هي لخطاب الجهل أو المعرفة الأدنى، و لسريان التوهيمات ب “المعنى السينمائي ” وتناسلها ، و كذلك لأوهام الحوار المزيف سواء في ما بين مثقفي القطر الواحد أو مع الآخر”( بنسالم حميش، “عن عواقب أزمة القراءة”) .


إن مواجهة هذا الإعصار المجتمعي الذي حول الكائن الإنساني إلى شيء لا يفكر ( بالمعنى الديكارتي)، لن يتأتى كما يقول هشام شرابي، ” بتغليب المعرفة الدفاعية، و الفكر الدفاعي على المعرفة النقدية و الفكر النقدي ” (شرابي، ص 66). لابد إذن من تشريح للذات المغربية، ومواجهتها بصدق و جرأة تاريخية، حتى نصل إلى مجتمع ينتصر فيه الفن و الإبداع والذاكرة، و هي قضية هامة بالفعل، و تخص جيلا برمته في مواجهة تحديات المستقبل معرفيا و علميا و حضاريا و ثقافيا، بما يحمله هذا المستقبل من أشياء معلومة و مجهولة . فكيف يمكن تحصيل هذا الرهان، والفرد يرزح تحت قصوره الذاتي و الموضوعي؟ أو بلغة عبالله العروي، المجتمع المغربي وكباقي الأقطار العربية ” لم يلج بعد مراقي التحرر التي كشفت عنها تجارب مجتمعات أخرى معاصرة”. (للمزيد من التفاصيل ، عبالله العروي، مفهوم الحرية).


العودة إلى الذات تسمح في نظرنا، بتجاوز منطق “ثنائيات زئبقية” نمطت الوعي المغربي و جعلته رهن، إما خطابات المحافظة أو الحداثة الديني، العلماني … هذا النموذج المفرط و الخطير دفع عبد الكبير الخطيبي إلى نحت تصوره حول “النقد المزدوج”، نقد يرمي من خلاله إلى نقد كل من “الغرب” و “النحن”. لكن هذا الخطاب، يخفي بدوره تلك الروح الدفاعية في مواجهة الغير، وهي نظرة تظل أسيرة للغة “الثنائيات الوهمية”. إن التراكمات التي خلفتها حالة “التمزق المغربي”، شكلت وضعية ساهمت في جعل التعامل مع التاريخ، يتم بطريقة غير موضوعية طيلة قرون، و كانت نتيجته هي ” محنة أللاختيار و أللاقرار” (غليون، ص 106)، وهي حالة تخنق أنفاس المغاربة .


العديد من الباحثين يجدون ضالتهم في أوراق الماضي البعيد، فيقلبون المواجع و المراجع، تلبية لرغبة علمية تتمثل في الرد على سؤال أصل التدهور المغربي، (نموذج كتابات عبدالله حمودي، عبدالله العروي…الخ). معرفة الذات و تحليل الوعي المغربي بكافة مطباته، وثقبه السوداء، يتطلب النبش في محاولة جديدة، لتفكيك هذه الذات المغربية، في علاقتها بالهو و عوالمه التحليل نفسية، أي ما يدخل تحت خانة إشكالية الهوية التي تعبر – في نظر بعض الباحثين – عن مجتمعات متأزمة.


إن “الضياع المغربي” يساءلنا يوميا عن معنى الهوية المغربية و دلالاتها، فالسؤال حول “من نحن”، يعتبر مهما في هذا السياق، بالرغم مما يظهره من بساطة. فالهوية تركيب و تناقض ووحدة وتغير . إن الهوية و كما يقول أمين معلوف ” لا تُعطى مرة واحدة وإلى الأبد إلى الفرد، بل تتشكل من عدة انتماءات تتبدل ويختلف تراتب عناصرها طوال حياته، والهوية قابلة للتغير والتَّبدّل حسب تأثير الآخرين بشكل أساسي على عناصرها. ” (أمين معلوف، الهويات القاتلة).


السؤال المطروح هو : لماذا الاهتمام بالهوية المغربية كهم سياسي و ثقافي، دون الأخذ بعين الاعتبار، ذلك التعدد والانصهار الذي يتطور بسرعة فائقة؟ فمن منا يقدر على تحديد ما يصطلح عليه السواد الأعظم من الناس بالأصل ؟ لنأخذ مثالا لطفل ولد في منطقة أمازيغية من أبوين أحدهما أو هما معا لا يتحدثان الأمازيغية، كيف سيتم مقاربة هوية هذا الطفل ؟ لماذا نتحاشى الحديث عن الهوية المختلطة التي لا لون يميزها ( بمعنى عدم السقوط في محنة التمييز)، ونقول إنها هي هوية المغاربة؟ لماذا يغيب الإحساس بالانتماء إلى ما اصطلح عليه أمين معلوف ب” المغامرة الإنسانية ؟”. إن الهويات و”الانتماءات الحية و القاتلة”، تختلف حسب اختلاف الأفراد و الجماعات و المناطق المغربية. إنها غير ثابتة و مستقرة، بل هي هوية متحولة و راحلة متطورة، و تتراجع حسب ظروف الزمان و المكان. لكن هذا النوع من الترحال، و التحول تواجهه رهانات وإكراهات كبيرة. لذلك،” فكل تضييق للهوية، وكل استعادة تجييشية للمنتوج التراثي، تساهم في المزيد من البلبلة الفكرية، فلا تستقيم الرؤية و لا تتضح، فتنتعش لغة المفارقات، مفارقات النظر و مفارقات التاريخ” (كمال عبداللطيف، ص7) .


سؤال ” من نحن” يستحضر سؤالا آخر لا يقل أهمية من الناحية السوسيولوجية، و يتعلق الأمر بسؤال”أين نحن “؟ و بلغة مغايرة، “ماهية المغرب التاريخية “. فخلال 2000 عام ، مر المغرب بمراحل وحقب تاريخية، فكان مملكة أمازيغية، والأمازيغ ، كما تقول المصادر التاريخية، أسسوا اتحادات قبلية وممالك. المغرب كان ولاية رومانية، فبداية من عام 40 بعد ميلاد المسيح و بعده بأربعة قرون، استقرت روما في المغرب، الذي كان أيضا دولة إسلامية، و إمبراطورية، وملكية و منطقة تحت الحماية، قبل أن تصبح مملكة ذات سيادة. ويرجع تاريخ المغرب إلى عصور سحيقة، تعاقبت خلالها على أرضه حضارات متعددة حتى الفتح الإسلامي ( القرن الأول هجري)، زمن الخلافة الأموية ، حيث ضم المغرب وشمال أفريقيا إلى الخلافة الأموية في دمشق، وبعد سقوط الأمويين، دخل الأدارسة المغرب ، وتنازعوا النفوذ في شماله مع خلفاء بني أمية في الأندلس.


هذا الانتقال التاريخي مهم للغاية، ووجب التركيز عليه، لفهمه وتفادي حصر تاريخ المغرب في قرن من الزمان، أو التركيز على تاريخ الفتح الإسلامي، في إطار قراءة قومية إيديولوجية. وسؤال الهوية التاريخية المغربية، يستحضر بالضرورة أصوات ومواقف، ما زالت تدافع وتوجه الرأي العام، نحو ما يصطلح عليه ب”الإسلام النموذجي”. هذا الوهم الساكن في النفوس والعقول، يتناقض مع منطق التاريخ الإسلامي، ويساهم في تعميق جراح الهوية المغربية، والتي و كغيرها من البلدان العربية، ” تصدعت و تمزقت بفعل الصراعات و التناقضات الداخلية ” (الخطيبي، ص 11). فخطاب الهوية الإسلامية يتعارض مع طبيعة الحضور التاريخي القوي و المكثف للملل و النحل و للمدارس الإسلامية المختلفة. وتشير كتابات عدة إلى هذا التعدد الإسلامي العجيب، الذي يكشف عن تناقضات داخلية تهدد وحدته الظاهرية، و يجعل فضاءات معزولة الواحد عن الآخر، و هو أمر يؤدي إلى نتائج معينة. فمثلا، ” هناك انفصام يعري عن وجود إسلام للرجال و آخر للنساء. “(الخطيبي، ص 41).


الحديث عن خطاب الهوية المغربية لا يبتعد عن إشكالية الحداثة، وأي ثورة للمجتمع على المستوى المادي هي في ارتباط بثورة فكرية و عقلية، تسمح للفرد و الجماعة، بأخذ مسافة نقدية مع الأشياء والعالم ، و خصوصا ماضيه الذي تحول بفعل مشانق الإيديولوجيات، وترسبات التاريخ الصدامي إلى طوطم يعبد، وعائق يشل خطوات المجتمع.


لا يمكن لي أن أتصور صورة واحدة ووحيدة لهوية ما، يمكن تعميمها على كل المجتمع المغربي. هناك وحدة ظاهرية (إيديولوجية)، و ممارسة جوهرية متعددة. المجتمع المغربي” مجتمع مركب”، “و المسافر ليستغرب من تعايش المحراث الخشبي مع مخرطة الخزَّاف، وتعايش الخيمة المصنوعة من الوبر مع الجرَّار ومصنع الاسمنت والعمارات”.(بول باسكون، “طبيعة المجتمع المغربي المزيجة) . والتركيب قد يحمل التنافر، و التناقض والصراع القبلي والعشائري مثلا. فالمجتمع المغربي تحكمه بنيات يلعب فيها الانتماء دورا أساسيا، و القبيلة كما يسميها باسكون، هي جمعية سياسية مبنية على عوامل اقتصادية جغرافية، أي علاقة الإنسان بالأرض و الطاقة البشرية والثروة الطبيعية .


الانتماءات العشائرية تحد من بناء الدولة الحديثة، فهي “تجسد العادات، و العادات مفروضة على الفرد و ملزمة له، فهي إذن تحد من مبادراته، لكنها في نفس الوقت تعارض أوامر السلطان التعسفية، و تضمن للفرد حقوقا معروفة ثابتة”. (العروي، مفهوم الحرية،ص 19) . العشيرة تساهم كذلك في إعاقة أي حركة اجتماعية، تتوخى تفتيت البنى التسلطية التي تتعمق أكثر فأكثر داخل المجتمع المغربي، و هو الأمر الذي دفع بعبدالله حمودي إلى إعادة طرح السؤال الذي في نظره، استبد كثيرا بالمثقفين العرب : كيف يمكن أن نفسر أن تحكم مجتمعاتنا من المحيط إلى الخليج بنيات سياسية تسلطية ؟


الورطة التي يضعنا فيها هذا السؤال، لا تفهم إلا في سياقاتها الفلسفية و التاريخية. فإذا كان بعض الباحثين ينظرون إلى التسلط في المجتمع المغربي بأنه نابع من بنيات ثقافية محلية، فإن البعض الآخر يحاول أن يتملص من المسؤولية التاريخية، محاولا تبرير الواقع انطلاقا من رؤى تتطرق إلى قضايا التبعية، و الاستعمار و نتائجه السياسية و الاقتصادية و الثقافية . مجمل القول، إن تاريخ المغرب المكتوب و الشفهي، و ما وصل إلينا من وثائق، بغض النظر عن طريقة تحليلها و معالجتها، يحمل جزءا من الجواب على حالة المجتمع المغربي اليوم. و قراءة التاريخ المغربي يمكن أن تتحقق، لكن بعيون مغايرة لما ساد طيلة قرون، ما دام أن ” التاريخ المغربي لا يكتب مرة واحدة بل تعاد كتابته باستمرار ” (الجابري، ص 48).


إن صورة الواقع المغربي تُظهر وتُضمر، فهي تسير إلى الوضوح و الغموض معا. تظهر الظاهر و تخفي صانع الصورة، سواء كان الفرد أو الجماعة أو السلطة أو عوامل خارجية، تؤسس الإطار العام لهذه الصورة المغربية . ولذلك السبب، ففهم و مقاربة الوضع المغربي بما يحمله من تفاعلات شؤون الساعة، يطرح أكثر من سؤال نظري و منهجي. هناك على سبيل المثال، كتابات و دراسات تريد أن تتخلص من خطاب التعميم و العينة التمثيلية، لكنها تسقط في هفوات يتضمنها خطاب الخصوصية نفسه.


إذا كان عبدالله حمودي ، يقول بأنه لا يريد التعميم النظري، ويتبنى منهجا مقارنا، فإن لغة و منطق مقارناته تعتريها بعض الهفوات، و تهددها آفة الاختزالية . لكنه في نفس الوقت يقر بتعميم مقارباته على المجتمعات العربية، ذلك أنه في نظره، ” رغم التقلبات التاريخية و الانقسامات، تحافظ هذه المجتمعات على روابط ثقافية قوية جدا بينها، و هذه الروابط تبنيها الأصداء العميقة التي يحدثها كل تغيير، يمس مجتمعا من هذه المجتمعات في باقي المجتمعات الأخرى ” (حمودي،ص 207 ).


المجتمع المغربي عصي على الفهم و تاريخه لم يفهم بعد، هذا ليس كلاما بلاغيا، بل هي فكرة تستند على مرجعين، الأول، تراكمات التاريخ المغربي المكتوب و الشفهي لحد الآن، أما الثاني، فتتجلى في تلك الخلفية النظرية التي تريد إعادة القراءة لتاريخ لم يكتب بعد. إن التاريخ الجديد و المتجدد يتطلب “ ظروفا ذهنية و اجتماعية جماعية وفردية لا تتحقق بشروط كثيرة و في أمد طويل ” (العروي، ص 8) .


كتابة تاريخ المغرب عمل شاق فكريا، وفيه الكثير من المزالق و الهفوات ، بل هو رهان يتجاذبه تصوران ، “الأول استعماري، يقول بأن المغاربة لم يؤسسوا دولة بالمعنى الحقيق(الروماني و الأوروبي العصري) بسبب ضعف في البنية الاجتماعية، و نقص في الفكر، فيجيب المؤرخ المغربي بالقول : لقد نجحنا في تكوين دولة قوية، كان من المفروض أن تستمر في التقدم، لولا الحملات الصليبية الاستعمارية المتوالية” (راجع بهذا الخصوص كتاب عبدالله العروي ، مجمل تاريخ المغرب) .


هوية المغربي و دلالات ضياعه، لا يمكنها أن تفكك، و ترسم عناصر صورتها التاريخية، بعيدا عن كتابة تاريخية جديدة، تتجاوز منطق ثنائية كتابة التاريخ (معمر/ مغربي). الفهم يتوخى تحليل و تفسير البنيات الثقافية المغربية التي لا نصل إلى كنهها وداخلها، بإقصاء المستعمر و نظرته أو المستشرق و تصوراته، و لكنها تتأسس على تقدير الذات، و تشريح فشلها الفكري و العلمي الآني، و إعادة قراءة تاريخها، المبني على خلفية المحاورة و التبادل الرصين، بين قول المتكلم و خطاب الغير. فكيف سنعرف ونفهم ذواتنا، إذا كان الغير يعرفنا أكثر ؟


من بين الحكايات والروايات الكثيرة التي يمكن لها أن تنير إجاباتنا عن هذا السؤال، تلك التي يردها عبدالله حمودي في كتابه “الشيخ و المريد”، وهي تبرز بوضوح دليلا على هذه المعرفة الغيرية . ” ح. س . كولان الضابط في الاستخبارات الفرنسي العارف بشؤون المغرب الحضرية و القروية زار “القايد التيوتي” في قصبته الواقعة جنوب شرق مدينة تارودانت . و نتيجة لفصاحة الرجل و تلاوته للقرآن ما دفع القايد إلى القول : “لعجب هذا العسل في جلد الكلب” ” (حمودي، ص139). رواية من هذا النوع، تميط اللثام عن معرفة الغير بأحوال المغاربة و تراثهم، و لو كان هذا الغير الذي لا يشترك مع الذات في الملة أو الدين، من فصيلة الكلاب. فبين الحيوان و إتقان المعرفة علاقة خاصة، يصفها عبدالفتاح كليطو بالغرابة الأقوى، و هي “جعل الحكمة و الكلام البليغ على ألسنة البهائم و الطير” (كليطو، ص36) . إن الحيوان والحكمة قد لا ينفصلان، أما المعرفة فتظل سلاحا للتفكيك و التهديم و البناء، و أداة إما للتطور و التواصل مع الغير، أو السيطرة عليه وإخضاعه لرغبة الأنا.


صورة المغربي تحكمها تعددية تورط الذات، و تجعلها أمام أزمة متواصلة، و خاصة أن المغربي يعيش ” تعددية ثقافية لا تحكمها أبدا علاقة مساواة حقيقية بين (المجموعات و الثقافات و الجنسين و السلطات)، و إنما علاقة تراتبية و لا تماثلية، و يجب على الدولة (ممركزة أم غير ممركزة) أن تدبر هذه اللاثماثلية التي تشكل هي فيها عنصرا مفارقا “(الخطيبي ، ص 52).


إن لعنة التعدد و أفقه الثقافي الغني، يجعل الذات المغربية بين عالمين، عالم الوهم وأقصد هنا”الأصل الخالص أو الأحادي”، و التعدد الذي يطبع حياتها اليومية دون أن تنتبه إلى ذلك . فوعي المغربي بذاته لا ينطلق إلا من إغفال بعد دون آخر، لذلك فهو يعيش لحظة مفارقاته. و إلى جانب هذه الحالة المطبوعة بشكل من أشكال الانفصام، نجد التمزق اللغوي و الثقافي يخترق بنية المجتمع المغربي. ففي الوقت الذي نجد فيه التكوين اللساني في المغرب متعدد، تكون الدولة ” مهتمة بتسويق فكرة الإجماع، و لا تتحدث عن التعدد و الاختلاف إلا انطلاقا من معين فلسفتها السياسية الخاصة ” (تقرير شامل حول حالة المغرب، 2007/2008، ص 72). أما لغة الضاد، اللغة الرسمية في المغرب، فهي أسيرة هذا الضياع اللساني، المطبوع بالجهل و التجاهل و الأمية. إن اللغة العربية مازالت حاضرة “غير أنها انفصلت عن الخطاب اليومي”( العروي، السنة و الإصلاح، ص93) . هذه حالة مجتمع لا يتحدث لغة سليمة، و باستغراب نلاحظ تراجع اللهجات المحلية التي بدأت تلد مفردات و عبارات و تراكيب مبهمة، و هي تعبر بالفعل عن حقائق المجتمع و أمراضه .


إن واقع المجتمع المغربي يسائلنا و يستفز وعينا . ظواهر الكلام عن الغير، المسؤول عن كل شيء، و ارتداء لباس الضحية، يتجلى في عدد من الحوارات الاجتماعية، و الخطابات المتداولة ، أما المسافة بين الذات و الغير، فهي مسافة تظهر، و كأنها عدائية، يصفها الخطيبي بطريقة جميلة و دالة، حين يقول : ” نرى المغربي يجري لكي يصل متأخرا، و هو يصل دائما متأخرا و الخطأ في ذلك يعود للآخر، دائما الآخر ” (الخطيبي ، ص67) .


إن الرغبة في إعادة كتابة تاريخ المغرب تطوقنا، بل تواجهنا على المستوى الثقافي و الحضاري. إنها تستنطق جوهر وجودنا. ليس كتابة التاريخ الهدف منه هو التدوين فقط، بل إعادة فهم المجتمع المغربي الذي أصابه مرض حقيقي يصفه بول باسكون، “بالاستلاب المعمّم”، و هو يحصل عندما تتعايش بعض الملامح المغلوطة تاريخيا. فالمجتمعات على حد رأيه، غير كاملة تاريخيا، لأنها تجر وراءها بقايا سابقة لها. والتاريخ يظل مرحلة يجب إعادة بناءها باستمرار، خاصة إذا علمنا أن المغرب كفضاء متعدد الثقافات، لا ينفصل عن تاريخ ” عربي مجزأ، تاريخ للاختلاف في الرأي، و ليس تاريخ بناء الرأي ” (الجابري، ص 46) . فهل فشل المغاربة في مواجهة ذواتهم و بناء رأي واضح عن أوضاعهم؟


على سبيل الاستخلاص:


يواجه المجتمع المغربي معضلة ترتبط بطبيعة العلاقة التي يمكن أن تبنى بين الإسلام و السياسة و الثقافة (الثقافة بمعناها الأنتربولوجي). فالوازع الديني حا

‫تعليقات الزوار

1
  • wadi
    الأحد 16 غشت 2009 - 12:20

    قرأت هذا التحقيق وان كان ؤخرا ..لكن لابدمن رد بعض الامور الى نصابها..الكلام على حالة مجتمع لا ينطلق من عن عينات محدودة..عليه التجوال والمعايشة او بالاحرى ان يكون من الوسط..ان المجتمع المغربي سيدي قد تحول في المعيشة على الاقل 70 في المئة الى الاحسن..لا لان المسيرين لهم الفضل في ذلك وانما لان الفرد المغربي يعمل..العمل لمنتج المعيل..كلما ارتوت ارض المغرب بالامطار زاد رخاء الفرد رخم نهب الناهبين..ان ارض المغرب معطاءة وفردها عامل جاد ولا علاقة لموقعه الاقتصادي العالمي الا يسيرا

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55

تقنين التنقل بالتطبيقات