بشاعة الفضاء العمومي

بشاعة الفضاء العمومي
الخميس 16 يناير 2020 - 07:55

كثر الحديث عن النموذج التنموي، وهذه ظاهرة صحية جدا، لسبب بديهي بتعبير ديكارت، والشيء البديهي يتصف بخاصيتين: الوضوح والتميز، ومن الواضح جدا أن مسألة النموذج التنموي استأثرت مؤخرا بنقاشات المغاربة، رغم تشاؤم ملحوظ يشوب استشراف المستقبل.

والملاحظ أن معظم وسائل الإعلام انحازت لخط رمي الورود وقصائد المدح بدل المقاربة الموضوعية دون تحامل مسبق أو تساهل مطلق، في إطار النقد البناء الذي يروم كشف مكامن القوة ونقط الضعف لبلوغ الحقيقة، والمشاركة إخراج الوطن من عنق الزجاجة.

الطريقة التي بدأت بها هيئة النموذج التنموي اشتغالها تشوبها بعض النقائص والاختلالات، أبرزها عدم اعتمادها على آلية التواصل مع المواطنين من خلال إنشاء منصات تفاعلية، لتلقي اقتراحات “الشعب” وتجميعها في بنك معلوماتي، واستثمارها وطنيا وجهويا ومحليا.

النموذج التنموي يجب أن يسير على قدميه لا على رأسه بلغة كارل ماركس، بمعنى يجب المزاوجة بين الشق النظري والشروع بالتزامن بتفعيل الشق الميداني خصوصا في الجوانب التنموية التي يسهل تنزيلها، مع النظرة الشمولية للتنمية، لا التصورات الأحادية التي تختزل الأزمة المغربية في الجانب الاقتصادي.

سأعطي مثالا لضرورة تبني موقف تكاملي لإنجاح النموذج التنموي، بالفضاء العمومي.

لن أطيل الحديث عن أدوار الفضاء العمومي الذي تبلورت حوله نظريات فلسفية وسوسيولوجية واقتصادية، بل سأتموقع مباشرة في فضائنا العمومي، الذي يتسم بالازدواجية، فضاء للواجهة في قلب المدن الكبرى بواجهاته الجمالية المزيفة، وفضاء عمومي هو مرحاض بدائي كبير بئيس.

لماذا؟؟

لأن التربية التي سادت في مجتمعنا اعتمدت على العنف، لا الجمال، وبهذا الصدد يمكن الرجوع إلى ترسانة الأمثلة الشعبية التي يحث معظمها على العنف “العصا خرجات من الجنة” واحتقار القيم الجمالية “المزوق من برا أش اخبارك ملداخل”، إن القيم الجمالية تعتبر ترفا يستدعي السخرية “لكرا وشقوف الغرس” بمعنى أن الشخص الذي يكتري منزلا ليس في ملكيته من المضحك أن يؤثث فضاء بيته بالمكونات الجمالية كمزهريات الورود واللوحات الفنية، لأن الأسبقية للقيم الإسمنتية الآجورية.

والنتيجة هو انتشار مظاهر القبح والبشاعة في فضائنا العمومي.

إن التربية بالجماليات مطلب مركزي في نجاح النموذج التنموي، ومن المؤسف أن تقوم الدولة بتهيئة حدائق عمومية بملايين الدراهم، دون تزويدها بشرطة البيئة، هذه الحدائق يمكن تحويلها إلى مقاولات تمنح لحاملي الشهادات ويديروا بها مقاهي أدبية، يستفيدوا من مداخيلها، ومن جهة أخرى يصبح فضاء للورشات والملتقيات الفنية، ساحات أغورا للشعر، المسرح، الرسم، النحت..

يختفي التفكير الإبداعي لدى سياسينا، وأفكار بسيطة يمكنها حل الكثير من المشاكل، والاستخفاف بهكذا أفكار يفضي إلى الكثير من المشاكل، وبالتالي بدل تحول الحدائق إلى فضاء عائلي للترفيه والتربية، يحتلها المنحرفون ويحولونها إلى وكر للبشاعة.

يختفي فن النحت في فضائنا العمومي، وتختفي معه التربية بالجماليات، وتنتصب مظاهر العنف والقبح.

التنمية مثالا وتمثالا.. مثالا للبطولة.. عبد الكريم الخطابي.. مثالا للفلسفة ابن رشد.. مثالا للتضحية.. مثالا للحب..

في المجتمعات الغربية، تؤثث التماثيل الفضاء العمومي، وتحوله إلى تحفة جمالية، تفرض سلطة بهائها على المواطنين، فيصبح الفضاء العمومي شريكا في التربية الجمالية، وتهذيب الذوق، وتنشئة المواطنين على السلوك المدني، واستقطاب السياح، ودولة ألمانيا اليوم خير مثال.

تختفي أيضا اللوحات الفنية مما يجعل فضاءنا العمومي، ليغدو صحراء بشاعة وفقدان المعنى، والمفارقة الكبرى أن الكثير من النحاتين والرسامين المغاربة الكبار، الذين تجرعوا مرارة الإقصاء، واضطر معظمهم لبيع أعماله لمرتزقة ينتحلون صفة الفنانين، ويوقعون أعمالا فنية يشترونها بثمن بخس من أصحابها الذين باعوها اضطرارا لدفع فواتير الكراء والماء والكهرباء والدواء.. وهم يتحسرون حين يشاهدون أعمالهم “المنهوبة” في متحف أو رواق وناهبها “الفنان المزيف” يتحدث عن لوحته وكيف أبدعها.. والأكاذيب القبيحة تخرج من فمه أمام كاميرا القنوات الفضائية.. يكذب بجرأة ووقاحة..

بعض الفنانين المغاربة الذين هاجروا إلى أوروبا، لاسيما إسبانيا وألمانيا، لم ينقذوا نفسهم من الفقر فقط، ولم ينقذوا لوحاتهم من النهب.. بل أصبحوا أساتذة وأكاديميين في معاهد فنية أوربية كبرى.

للإشارة منذ أواسط القرنِ الخامسِ قبل الميلادِ شرع النحاتون في نحتِ الرائعة “أفروديت” كامرأة فاتنة، وتقول الأسطورة إن أفروديت “ولدت في قبرص بعد أن قام كورنس بقطع العضو التناسلي ليورنس فسقط مع الدم والمني في البحر فتكونت رغوة (APHRO)، وتكونت أفروديت من كامل الرغوة. وظهرت داخل صدفة في البحر كاللؤلؤ وكانت في غايه الجمال وعارية الجسد لتظهر جمالها ومن هنا اتخذت الصدفة رمز لها”، ومن أشهر نحاتي تلكَ الحقبةِ النحات “فيدياس” الّذي نحتَ ثلاث تماثيل لأفروديت، والنحات “سكوباس” الذي نحتَ تمثال “أفروديت” بفتنة فنية تُجسِّد روعة الإبداع الفني، وكانت “أفروديت” تظهر في تلك التماثيل بثوبِها الشفّافِ الطّويلِ، ويعتبر “براكسيل” أول نحات إغريقي يُجرد “أفروديت” من ثيابها.

تمثال لأفروديت في متحف أثينا الوطني للآثار

ولا بد من الحديث عن الرسام الإسباني صالفادور دالي Salvador Dali (1904-1989) الذي يُعدُّ من أبرز فناني الحركة السريالية، التي تركها في أواخر الثلاثينيات، توجه بتحويل موضوعات لوحاته من التعبير الرمزي إلى واقع بصري معتمدا على الصقل والتقنية الفنية العميقة، والتصوير الأقرب إلى الفونوغراف والتي لا تتم إلا بعقلية واعية و بــحرفية محسوبة، وبهذا الوعي هدم دالي الأساس التي قامت السريالية، دالي كان أيضا شاعرا ومسرحيا وربطته علاقات فنية بالعديد من الفكرين سيما الشاعر لوركا، وهو يقرُّ باحترامه لزوجته الروسية إيلينا ديماكونوفا (غالا)، التي أنقذته من السقوط الأخلاقي والانهيار النفسي، والجنون والموت، إنها أشبه بأفروديت التي رسمها.

لوحة أفروديت للرسام دالي

باختصار يمكن للجماليات أن تنقذ مجتمعنا ليس فقط من الانهيار الاقتصادي، وإنما من الانهيار الأخلاقي، لاسيما، وأن الخطاب الوعظي الإرشادي للحركات والأحزاب الإسلاموية، سقط قناعه، وظهر وجهه الحربائي.

‫تعليقات الزوار

8
  • Mounadi
    الخميس 16 يناير 2020 - 08:37

    شكرًا جزيلا. استمتعت بقراة موضوعك القيم، رغم اختلافي مع افكارك في العديد من الأحيان.
    الفن، الجمال و الحب اللامشروط هم الحل و ليس الاسلام و تشريعاته.
    خلاصتك اعجبتني كثيرا.
    و شكرًا

  • مغربية
    الخميس 16 يناير 2020 - 08:47

    اضافة الى بؤس الفضاء العمومي من غياب للوحات الفنية وقلة الفضاء الاخضر الذي يتحول تدريجيا الى تجزئة سكنية نهاك ايضا ظاهرة احتلال الملك العمومي

    صدقت اخي نورالدين

    —– التربية التي سادت في مجتمعنا اعتمدت على العنف، لا الجمال، وبهذا الصدد يمكن الرجوع إلى ترسانة الأمثلة الشعبية التي يحث معظمها على العنف "العصا خرجات من الجنة" واحتقار القيم الجمالية "المزوق من برا أش اخبارك ملداخل"، إن القيم الجمالية تعتبر ترفا يستدعي السخرية "لكرا وشقوف الغرس" بمعنى أن الشخص الذي يكتري منزلا ليس في ملكيته من المضحك أن يؤثث فضاء بيته بالمكونات الجمالية كمزهريات الورود واللوحات الفنية، لأن الأسبقية للقيم الإسمنتية الآجورية——

    التنمية البشرية اكثر اهمية من التنمية الاسمنتية ونحن لا نمتلك لا هذه و لاتلك

  • صوت الريف
    الخميس 16 يناير 2020 - 18:42

    الفضاء العمومي مراة تعكس المجتمع .

    المجتمعات الجمالية تلد فضاء جميلا.

    فاقد الشئ لا يعطيه. في المغرب لا قيمة للقيم والمحيط النظيف والجمال.

    القيمة في مجتمعنا للجاه و المال.

  • أمازيغية حرة جدا
    الخميس 16 يناير 2020 - 19:05

    الموضوع يطرح مفارقة
    ايهما اهم المعيش اليومي أم القيم الجمالية
    الواقع يعلمنا ان نكون واقعيين اسمح لي ان اختلف معك الواقعية مهمة جدا في الحياة
    الجائع لن يفكر في لوحة الخبز للرسام فان خوخ الاولوية للحياة مهما كانت قاسية

  • مواطنة 1
    الجمعة 17 يناير 2020 - 10:23

    يا ودي يجمعوا غير زبلهم من الشارع ويصبغو ديورهم ، إلا كل واحد زين واجهة بيته وقضى على القمامة من الأزقات والشوارع غادي نزيدو شوية للقدام . أما اللوحات الفنية والتماثيل قليل اللي كيعرف قيمتهم ، مجتمع خصه يتفورماطا من الأفكار الرجعية ، مجتمع يحرم كل شيء جميل ، بل يحرم حتى على نفسه كل ما يسعده في هذه الحياة وكأن الله خلقنا لنشقى و"ننغصها " على الآخرين . لكن المشكل العويص هو أن مجتمعنا مجتمع يقبل أن يستمتع بكل هذا في الدول الغربية وبعيدا عن الأنظار ، ويأخذ صور السيلفي بجانب اللوحات والتماثيل والمآثر التاريخية ويضعها في البروفايل ديال الواتساب ، بينما يحرم كل هذا في وطنه ويعتبر أن الشريعة الإسلامية تحرمه ، بغينا نشدو شي طريق وحدة الله يجازيكم بخير .

  • نور الخير
    الجمعة 17 يناير 2020 - 12:10

    ليد دكان بالقرب من مقر لوكالة نقل المسافرين تابعة للدولة ونظرا لانعدام مكان لدورات المياه بالوكالة المذكورة ,أـن مستخدميها ينأون عن فتحها للمسافرين وفي كل صباح أجد أثر من يتبولون على حائط دكاني بالرغم من أن واجهته نظيفة وتوضح بالجلاء على أنه مكان يجب احترامه وتوقيره كونه محلا تجاريا لكن نوعية البشر الذين لا يحترمون الآمكنة ولا الآزمنة هم بشر غير اخلاقيين وأـن تربيتهم ناقصة ليس فيها إحساس بالفن وهذا ما نحن عليه كفصيل من الشعب المغربي المتوحش

  • رشيد
    الجمعة 17 يناير 2020 - 17:49

    مع الاسف المغاربة لايعرفون قيمة الفنون الجميلة. فبالاضافة لمكانة الفن الجمالية. فهو اب للعديد من المهن. التي تعطي قيمة مضافة عالية وتخلق مناصب شغل جيدة. مثلا فنون الطباعة، والدزاين، و التصميم و الديكور. التصميم الصناعي. الصناعة السينمائية…… فكل شيئ وكل آلة أو بضاعة تحتاج الى مصمم الذي هو في الحقيقة فنان… واكبر خطأ تقوم به الحكومة هذه الايام هو تجميد التعليم الفني. وكأن مادة الفنون الجميلة لاتصلح لشئ. رغم ان كل من درش الفنون يمكن ان يلتحق بعدة مهن ويمكن ان جد عملا جيدا ويمكن ايضا ان يخلق مقاولة…

  • نادية المريني
    الجمعة 17 يناير 2020 - 21:45

    سبق لكلية علوم التربية بالرباط ان عقدت مؤتمرا للتربية الجمالية في علاقتها بالتنمية الاقتصادية كانت التوصيات مهمة جدا لكنها ظلت حبرا على ورق
    المشكل ليس في الافكار الابداعية المشكل هو غياب الارادة الحقيقية في التنمية
    الدولة تريد هذا النموذج من المواطنين
    اصبحت متشائمة من مصطلح التنمية

صوت وصورة
مؤتمر الأغذية والزراعة لإفريقيا
الخميس 18 أبريل 2024 - 16:06

مؤتمر الأغذية والزراعة لإفريقيا

صوت وصورة
الحكومة واستيراد أضاحي العيد
الخميس 18 أبريل 2024 - 14:49 92

الحكومة واستيراد أضاحي العيد

صوت وصورة
بايتاس وتأجيل الحصيلة الحكومية
الخميس 18 أبريل 2024 - 14:36 86

بايتاس وتأجيل الحصيلة الحكومية

صوت وصورة
هلال يتصدى لكذب الجزائر
الخميس 18 أبريل 2024 - 13:45 4

هلال يتصدى لكذب الجزائر

صوت وصورة
مع المخرج نبيل الحمري
الخميس 18 أبريل 2024 - 13:17

مع المخرج نبيل الحمري

صوت وصورة
عريضة من أجل نظافة الجديدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 12:17 3

عريضة من أجل نظافة الجديدة