ظاهرة "السيلفي" .. بضاعة عرض الذات أمام أنظار الغير

ظاهرة "السيلفي" .. بضاعة عرض الذات أمام أنظار الغير
الإثنين 19 شتنبر 2016 - 03:00

“تتوسط لوحة الرسام الإيطالي رفائيل «مدرسة أثينا» صورة لأفلاطون وأرسطو وهما يتجادلان، حيث يشير الأول بإصبعه إلى السماء، بينما يشير الثاني بكفه نحو الأرض.”

واللوحة في واقع الأمر محاولة لالتقاط اللحظة المؤسسة للصراع الذي نشب في مراحل تاريخ الفكر الغربي الأولى بين مدرستين: مدرسة مثالية تستمطر الوحي أو الحقيقة من عالم السماء المخفي اللاـمنظور، وهي تتوسل بحاسة السمع؛ ومدرسة واقعية تكتفي بما هو منظور بغرض التوسع في فهم حقيقة الواقع والتمكن منه، وهي تتوسل بحاسة النظر.

وتكثر في زماننا القرائن الدالة على أن النصر في هذا الصراع صار حليف المتشبعين بالواقعية المرتبطة بحاسة النظر. عند التحقيق نجد أن الإنسان في ثقافتنا المعاصرة لم يعد يطلب شيئا قدر طلبه للصور، بغرض القراءة والفهم والتخاطب والتحاور والتواصل. لقد كثر من هذا الإنسان الإقبال على الصورة وفنونها، حتى كادت تلهيه عن الكلمة، وكأنه يعمل بوصية ليوناردو دافنتشي، الرسام الذي أوصى بعد انتهائه من رسم لوحة ضمنها قلبا بأن “تترك الكلمة للعميان”؛ فحقيقة الأشياء أصبحت، حسبه، مناط نظر، لا يمكن أن تصاغ بدقة إلا بواسطة الصورة.

وألهت الصورة العقل الإنساني عن كل الأشياء الأخرى، فدخل في حكم ما يمكن أن نصطلح عليه بـ”الإنسان الناقص”، الذي يصوره نيتشه على لسان زرادشت بأنه إنسان “يملك القليل من كل شيء والكثير من شيء واحد”.

ومظاهر هذا النقص كثيرة، نذكر منها ما نلحظه في عالم المشاهير من تهافت على “أخذ الصور”، وتفنن في عرض الأجساد وتجديد الهيئات الجسمانية وتنويعها أمام أعين الناظرين… هذه الظواهر تفصح للمتأمل عن جانب من جوانب تأثير ثقافة الصورة على نفسية الإنسان؛ والأصل أن ما يجلب للإنسان الشهرة والتفوق والتميز هو ما يأتيه من أفعال عجيبة، أو ما يقدمه من صنائع بديعة، أو ما يتقنه من مهارات فريدة… وهذه الأفعال والصنائع والمهارات تكفي لتتحدث عنه وتشير إليه.

غير أن السقوط في أسر ثقافة الصورة، ثقافة “الظهور” و”البروز”، جعل معاصرينا يتوسلون بالعرض المستمر لصورهم، ظنا منهم أن في هذا العرض ما يجعلهم “أظهر” و”أبرز”؛ والحال أن استعراض الهيئات الجسمانية أمام الرائين أبعد من أن يُمكن من النفاذ إلى أرواح العارضين وذواتهم، بل يخيل إلى الناظر اللبيب أن هذا الاستعراض للذوات أشبه ما يكون باستعراض الأزياء، تتحول فيه ذات الإنسان إلى مجرد لباس يتزين به المرء، لا يكاد يلامس جلد صاحبه حتى يخلعه ليحمل لباسا آخر بدله. وإلا كيف نفسر لجوء بعض مشاهير كرة القدم، من الذين تتحدث عنهم مهاراتهم في الميدان بما يكفي، إلى وشم أجسادهم وشما مبالغا فيه، يبعث على التقزز أحيانا؟! ليس هناك من تفسير سوى أن حاجة هؤلاء إلى الظهور والبروز لم تشبع بعد؛ وما لجوؤهم إلى مخاطبة عين الرائي برسوم ورموز يضعونها على أجسادهم إلا وسيلة يمتطونها كي يصبحوا “أظهر”. والحال أن محاولة تكثيف ظهور الذات الإنسانية عبر التقلب في أشكال زخرفية للجسد تنتهي إلى حجب جوانب هذه الذات غير المرئية. فمثل من يسعى إلى تحقيق ظهور يفوق ظهوره في الميدان، كمثل من يراهن على إغراء الناظر بالمظهر الخارجي فقط، ويتعبه التقلب في الهيئات الجسمانية، حتى إذا استنفدها جميعها لم يجد الناظر منفذا ينفذ منه إلى جمال روحه ومحاسن دواخله.

لقد استفحل الأمر ليبلغ مع ظاهرة “السيلفي” منتهاه.. لا شك أن وسائل التواصل الجديدة أتاحت مساحة واسعة للتعبير عن الذات، لكن اللافت للنظر هو أن هذه المساحة تحولت في جزئها الأكبر إلى فضاء عرض متواصل لصور يلتقطها الإنسان لذاته، بمناسبة أو بغير مناسبة. وكأننا بإنسان التواصل الاجتماعي الجديد يطلب تجديد صوره الخارجية في أعين الناظرين كوسيلة لضمان استمرار التواصل.

لقد تحول الكون كله، زمانا ومكانا، إلى مجرد خشبة عرض وظيفتها إظهار الذات في جميع تجلياتها وهيئاتها الخارجية. مع “السيلفي” تتوارى كل المناظر والمشاهد خلف منظر الإنسان، تتوارى جبال (الهيمالايا) والمحيطات والبحار والوديان والمآثر التاريخية والعمرانية، تتوارى كلها وراء صورة يلتقطها الفرد ولسان حاله يقول: “أنا فوق جبال الهيمالايا”، أو “أنا أمام شلالات نياجارا”، أو “أنا أمام البحر”، أو “أنا أمام الكعبة المشرفة”.. لقد أصبحت الصورة تعتمد شهادة لتسجيل حضور الذات الإنسانية على خلفية مظاهر كونية.

عند التأمل، نجد أن ظاهرة “السيلفي” تؤشر على تحول كبير في تمثل الإنسان لذاته وللكون وللوجود. ولعل الملفت للنظر في هذه الظاهرة هو النزوع البين نحو استدبار الكون والطبيعة. إن ملتقطي الصور الذاتية لا يخبرون عن الشيء الماثل في الصورة وراء ظهورهم، وإنما يخبرون عن ذواتهم بتصدرهم المشهد. والراجح أن اهتمام الإنسان التواصلي الجديد بنظر غيره له، يفوق اهتمامه بنظره هو للظواهر التي يتخذها خلفية لاستعراض ذاته. بمعنى آخر أن شغف هذا الإنسان بالتعين والتحقق أمام بصر الآخرين صار يلهيه عن التبصر في الأشياء الماثلة أمام عينه هو.

وكأننا بهذا الكائن التواصلي الجديد يخرج بالعقل البشري إلى نقيض ما ارتضاه له فيلسوفنا المسكين طه عبد الرحمن، حين اجتهد ليؤصل لمقولة ديكارت الشهيرة “أنا أفكر إذا أنا موجود”، فأفضى به اجتهاده إلى مقولة “أنظر تجد”.. إذ لم يعد الإنسان في ثقافة السيلفي “ينظر ليجد”، بل صار “ينتظر ليوجد”. ومعنى الانتظار، هنا، هو عرض الذات على أنظار الآخرين، إذ أن المنتظر منتصب أمام الأنظار. فقولنا لشخص آخر: “انتظر”، يفيد معنى “تجمد في صفة المنظور”.

حقا، مع “ثقافة السيلفي” يقوم الإنسان بعرض ذاته على أنظار الآخرين كي يمنح الوجود، وجودا نفسيا- اجتماعيا، وجودا في أعين الناس، لا في فضاء الوجود الأصيل.

صحيح أن عين الرائي قد تمنح المنتظر المرئي وجودا، لكن وجودا شكليا أو وجود “ديزاين” Design، مدة صلاحيته قصيرة جدا. ولا يخفى أن “الديزاين” في ثقافة الصورة المعاصرة له وظيفة التحفيز على الاستهلاك، فكلما أدى وظيفته واستنفذ أغراضه حل محله “ديزاين” آخر. لقد أصبحت الذات الإنسانية، لارتباطها بأشكال وصور معروضة، ذاتا “قابلة للرمي بعد الاستعمال”، مثلها مثل مواد الاستهلاك الأخرى. ولعل من يروم إثبات ذاته عبر الاستعراض الشكلي، إنما ينتظر أن تمنحه عين الرائي وجودا.. وهذا لعمري هو النقص والفقر بعينه.

على خلاف كبير مع ليوناردو دافنتشي، مفتتح عصر النهضة الأوروبية، الذي أوصى بضرورة اللجوء إلى الصورة للتعبير عن حقائق الأشياء، يقول الكاتب الفرنسي سانت إيكسيبيري على لسان الثعلب وهو يوصي “الأمير الصغير”: “هاك سري، إنه سر بسيط: لا نرى جيدا إلا بواسطة القلب. الأشياء الأساسية تظل مخفية عن الأعين”. والواقع أنه رغم توسع مجال النظر وتطور وسائله التي مكنت الإنسان من الإبصار في الليل، وخلف الجدران السميكة، بل حتى من تعقب حركة الأجسام في الماضي بفضل أدوات قياس الحرارة، يظل الإنسان عاجزا عن سبر أغوار الحقيقة. ومجمل الصور المبثوثة على صفحات التواصل الاجتماعي لا تحمل رسائل جوهرية، إنما هي ضرب من التخليط الواضح الذي يصرف أنظارنا، خصوصا في العالم العربي والإسلامي، عن الأفكار العظيمة والمعاني الكبرى.

ألا ترى أن في العالم اليوم من الصور المذهلة ما يمكن أن ينفعنا في الاغتناء بما ينقصنا من المهارات اليدوية والخبرات الصناعية والتجارب الفنية والقدرات اللسنية والأفكار الفلسفية؟ ما أحوجنا إلى حس نقدي ينبهنا إلى أوجه فساد استعمالنا للصور في عوالم التواصل الاجتماعي!

لقد بلغ طلب الوجود في أعين الرائين مرتبة من الشذوذ تنذر بفقدان الذات عوض وجدانها.

*رئيس منتدى بروكسيل للحكمة والسلم العالمي

‫تعليقات الزوار

12
  • Meknassi from USA
    الإثنين 19 شتنبر 2016 - 04:12

    اعشقك يا علم النفس واعشق تواضعك الجميل حينما تسلخ فروة راسنا وتفتح تلك النوافذ المغلقة بداخل ادماغتنا. لتجعلنا صغارا امام من تعالينا عليهم

  • أحمد الناظوري
    الإثنين 19 شتنبر 2016 - 07:50

    مقال ممتاز وعميق.كلما كان اﻹنسان ناقص العلم والفكر والثقافة كلما أكثر من الوسائل اﻷخرى لجلب اﻹنتباه واﻹهتمام،إما بواسطة الصور أو الملابس أو السيارة…

  • قنيطري ،،،
    الإثنين 19 شتنبر 2016 - 07:53

    لوحة جميلة و عادت بنا الشخصيات الإغريقية لدروس الرياضيات الثانوية مبرهنة فيثاغورس و ارسطو طاليس و افلاطون .. و حكم سقراط في الفلسفة فعلا كانت اليونان حضارة كبرى في الزمن القديم ماقبل الميلاد

  • zouhair. meknes
    الإثنين 19 شتنبر 2016 - 08:50

    Tout simplement bravo bravo pour votre article, il est tres intéressant,merci

  • Hafid med hafed
    الإثنين 19 شتنبر 2016 - 09:00

    Je pense que t'as évoqué un sujet que plein de monde hésite à discuter.. oui pour moi je suis totalement d'accord.. il s'avérer dans nos jour qu'on devient plus en plus les hommes de l'image au lieu des pensées… parfois c'est vraiment honteux qu'on essaye de laisser nos photos nous présente au lieu de la créativité et le bien-être.

  • Exacte
    الإثنين 19 شتنبر 2016 - 09:22

    J'ai trop aimé votre article, il met en exergue un problème purement psychique. Ce qu’il faut ajouter à ça c’est le fait d’exposer ses activités du jour et ses …sentiments. Chose dégoûtante

  • قهوة الصباح
    الإثنين 19 شتنبر 2016 - 11:41

    مقال جد رائع، شكرا على طرح الموضوع. فعلا ظاهرة السيلفي عرفت انتشارا وبائيا، و صارت تستحق لقب "مرض العصر" بامتياز.

  • Hassan
    الإثنين 19 شتنبر 2016 - 12:03

    تحليل فلسفي لعلاقة الإنسان بنفسه و محيطه أي المجتمع الذي بدأ يفقد مسألة مهمة ألا و هي الثقة بالنفس و هذه الثقة تأتي بالعقل لا بالصورة (أبسط متال قصة جحا) bravo pr l'analyse

  • الاستاذ يوسف غريب
    الإثنين 19 شتنبر 2016 - 15:43

    مقال جميل و تحليل منطقي على جميع المستويات و اعجبني اكثر المقاربة التاريخية……..شكرا

  • Âli Bou
    الإثنين 19 شتنبر 2016 - 16:27

    أحببت و أبهرني هذا التحليل الدقيق و المنطقي لنوع من البشر بل إنه تشخيص لمرض أصاب شريحة من الناس و أركز هنا على عدم التعميم إذ أننا إن دققنا النظر من خلال نافذة مواقع التواصل الإجتماعي -و التي أصبحت تعطينا فرصة للتقرب و المراقبة عن كثب لمختلف الظواهر البشرية- فإننا قد نجد شريحة أخرى ترفض نشر صور خاصة بها و تعمد عوض ذلك إلى نشر صور مشاهير أو شخصيات تختارها بعناية ربما لقربها من شكل صاحب الحساب -شكله الداخلي و الخارجي أي الفكري و الجسماني- أي لأنها تمتلك صفات أو أفكار يتمنى صاحب الحساب امتلاكها، لا ندري هل يعبر ذلك عن ضعف في الشخصية أم هو عدم رضى عن الذات أم هو تعبير غير مباشر عن الأفكار و المواقف.. أقف هنا حائرا فإن كان ذلك تعبيرا عن الأفكار فلم لا نستعمل الكلمات فالمعروف أن تلك المواقع تتيح نشر جملة أو نص أو مقال بدون أدنى مشكل، و إن كان ضعفا في الشخصية، فلماذا يسمح الشخص لنفسه بالتواجد في محيط يشعره بالنقص ؟! أوليس الإنسحاب أفضل ؟ أم أنه نوع من الإدمان على شيء ندري أنه يقتلنا ببطء أو يكاد لكننا نرى فيه ضرورة محتمة علينا لكن من أقنعنا بذلك ؟! .. و هنالك أنواع أخرى عديدة…

  • شكرا جزيلا
    الإثنين 19 شتنبر 2016 - 17:35

    من اعماق القلب شكرا على تنوير عقولنا, جزاكم الله بجنة الفردوس . مازال الخير في امتي حتى…الله الوطن الملك العز و النصر لبلادي العزيزة و ولادها.
    الحمد لله و شكرا جزيلا على متل هده المقالات الدكية

  • عثمان
    الثلاثاء 20 شتنبر 2016 - 03:00

    أنا بيني و بينكم كنتصور سلفي ماشي مرض مني و لا غرور مني .بكل بساطة أتصور سيلفي لأنني لا أجد من يصورني.هههههه

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين