ادخلوا مساكنكم..

ادخلوا مساكنكم..
الأربعاء 25 مارس 2020 - 10:19

تراجيديا وباء كورونا التي تشتعل بتسارع هندسي، شبكي، يحصد بمنتهى السرية والاحترافية المزيد من الضحايا. ويعتبر الجهل أو الاستهتار بقواعد التعامل مع الأوبئة والطواعين والكوارث بمثابة كعب أخيل في استفحال مآسي كورونا.

هذه المأساة تفرض علينا امتلاك رؤيتنا الخاصة دون تماه ومحاكاة لتصورات ومواقف الدول المتقدمة والمُصَنِّعة، والتي لم يعد خافيا حنينها إلى الهيمنة والاستعمار، ورغبتها الحثيثة في خلق نظام عالمي جديد، “عالم ما بعد أزمة كورونا”.

لا شك أن التاريخ البشري عرف الكثير من الجوائح عبر مسارات ملتبسة بين علاقة الإنسان بأخيه الإنسان – أو بعدوه الإنسان حسب توماس هوبز–، ثم علاقة الإنسان بالطبيعة.

منذ أن وجد الإنسان نفسه في مسكن “الطبيعة”..دخل معها في علاقة أخذ لا تنتهي..بدءا بالتقاط الثمار والصيد والقنص، وفي مرحلة الزراعة ستبدأ مرحلة من الاستنزاف بالقضاء على الغابات لتوفير الأراضي الصالحة للزراعة..

لكن المرحلة المفصلية في علاقة الإنسان بالطبيعة هي مرحلة الصناعة التي بدأت معها الطبيعة تستنفد صبرها وتسامحها، وشرعت برد فعلها تجاه الفعل الإنساني الأناني المتهور..أو ما يمكن أن نسميه بداية الانتقام المؤجل.

هنا لا بد أن نقولها بهدوء، سواء كان وباء كورونا انتقاما تقوم به الطبيعة، أو صناعة ومؤامرة سياسية واقتصادية بين العرّاب الأوروبي، الثور الأمريكي، التنين الصيني، والدب الروسي.. فإن الدول الصناعية هي المسؤولة عن إنهاك الحياة بالكوكب الأرضي..

الاحتباس الحراري، ثقب الأوزون، أنفلونزا الطيور، أنفلونزا الخنازير، جنون البقر، سارس، والاستنساخ.. ومشروع الاستنساخ البشري، وبداية تجارة قطع الغيار البشرية.. أكثر من ذلك صناعة الحروب لبيع أسلحة الدمار الشامل، واحتلال علني مكشوف للدول وثرواتها: العراق، سوريا، ليبيا…كلها جرائم تقترفها الدول المصنعة، ثم تعطي دروسا للدول الضعيفة في كيفية الحفاظ على البيئة..

كورونا ستنتهي قريبا، هي أشبه بسحابة عابرة، بمنتهى الحزن والأسف هي سحابة تفتك بدون رحمة، إلا أنها تضع عنوانا واضحا للعالم الجديد، “عالم عدوى القتل”؛ وهنا تكمن المفارقة الخطيرة، انتشار القتل بالعدوى. لا أقصد انتقال كورونا بالعدوى من إنسان مصاب إلى آخر، بل إصابة الطبيعة بعدوى “العنف المجنون”.. لقد تعلمت الطبيعة من الإنسان عدم احترام القوانين، والرهان هو أن تـتّحد الدول الضعيفة، التي تعمق ضعفها من تشتتها وانغماسها في اليومي الذي حولها إلى قطعان يسهل تضليلها وتدجينها واستغلالها.

والغريب اختفاء النخب الثقافية التي لم تميز بين الحجر الصحي والحجر الفكري، وهذا ما يجعلنا نتنبأ أن “الطبيعة” غداة “ما بعد كورونا” ستنخرط شريكة فعالة في مساندة الأنظمة الشمولية؛ وخير مثال على ذلك شمولية الظاهرة الكورونية، التي تذكرنا بشمولية الظاهرة الاستعمارية الكولونيالية.

طبعا لا أحد يجادل في ضرورة الإقامة الصحية المنزلية، بدل مفهوم “الحجر الصحي” أو “الحظر”، وهي مفاهيم غير بريئة. ويجب الاحتياط من الانزلاقات المفهومية، فاللغة حين تشرع في ممارسة سلطتها الفكرية إنما تمهد الطريق لسلطتها المادية..

أصبحنا نشاهد فيديوهات في العالم لتعنيف بعض الأشخاص غير الملتزمين بقواعد الإقامة الصحية، وهذه مبررات لممارسة العنف، لكن العنف لن يحظى أبدا بالمشروعية بتعبير الفيلسوفة حنا أرندت. ما معنى نزع سروال شخص في إيطاليا وضربه على مؤخرته ضربا مبرحا بعصا غليظة مع قهقهات عبثية؟..

نعم لا بد أن يلتزم الناس بقواعد الإقامة الصحية، لكن يجب امتلاك خطة إنسانية مدروسة، وإشراك الكفاءات في مختلف المجالات للتوعية، لا احتكار تدبير الأزمة، وتخفيف العبء على الأجهزة الأمنية، وتلطيف بولسة التدابير الوقائية.

يجب أن نتعلم كيف نخاطب الناس، كيف نحرص على كرامتهم، لأن الشخص الذي نسحق كرامته نسحق معها حياته.

العالم الإسلامي مليء بالمساجد، ويمكن استثمار مكبرات صوتها للتوعية عن بعد، يقوم بها فنانون، رياضيون، مثقفون، أكاديميون، ووعاظ.. ولم لا تقديم محاضرات “صومعية” بلغة بسيطة.

وقبل أن نطالب الجميع بملازمة بيوتهم، علينا أن نفكر في الذين لا بيوت لهم من جحافل المشردين والمساكين.. هؤلاء يمكن إيجاد خطة لإيوائهم، لاسيما أن المدارس مغلقة، ويمكن توزيعهم بمعدلات ضعيفة جدا تبعدهم عن الاختلاط، وتحميهم من العدوى..

حين اتخذ الملك محمد السادس قرار حماية حياة الشعب المغربي، والإقدام على قرارات جريئة.. فالغاية كانت حماية الشعب المغربي، واتخاذ تدابير استباقية، تمنع من استشراء الوباء.. وبالتالي يجب وضع تدابير تصون حياة المغاربة، لاسيما الفقراء الذين وجد عدد كبير منهم أنفسهم بلا شغل، بلا دخل؛ لذا يجب تقديم مؤونة غذائية تمكنهم من البقاء على قيد الحياة، فليس كورونا وحده الذي يقتل.. زمهرير البرد، والجوع قد يقتل المشردين والجوعى قبل وصول كورونا.

ختاما الشكر الجزيل لشغيلة الصحة، وشغيلة التعليم، ووسائل التنوير الإعلامي. والشكر موصول للأمن والوقاية المدنية والقوات المسلحة، ولكل المغاربة الشرفاء..هذه فرصتنا لنصنع شعبا عظيما رحيما في مغرب عظيم رحيم.. شعبٌ يجسد الرحمة في لحظات القسوة..وهذا معنى الآية العظيمة ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ سورة الأنبياء، الآية:107.

.. حب الوطن من الإيمان..

[email protected]

‫تعليقات الزوار

13
  • مشارك
    الأربعاء 25 مارس 2020 - 12:03

    شكرا لك أستاذ على التنبيهات القيمة لكن الخطاب والمطالبات ينبغي أن تتوجه رأسا لأولائك الذين كدسوا الأموال الطائلة من عرق الشعب ودمائه وقوته وهربوا بها لادخارها وشراء الجنسيات الأجنبية التي يحتمون بها وأنت تعرفهم والشعب يعرفهم والتاريخ يعرفهم: قبل المصالحة لابد من المصارحة ولي خذا شي أو راه عاد كيخذ يردو يردو ويتحاسب عليه وإلا ستبقى دار لقمان على حالها وكي اليوم كي غدا والكرونا ياخذ ما ياخذ من الفقراء والمساكين والمهمشين ولي لفوق راهم الفوق لا يبالو ولا يُسألون.ا.ا.ا.ا

  • غاندي
    الأربعاء 25 مارس 2020 - 12:19

    فعلا ان العالم ما بعد وباء كورونا سيكون عالمابمقاييس قاسية.

  • مصطفى الرياحي
    الأربعاء 25 مارس 2020 - 12:26

    Article de haut vol où tout est dit joliment dit savamment dit
    Que les esprits aveugles , les ténébreux t'entendent cher très cher ami

  • المهدي الهوبي
    الأربعاء 25 مارس 2020 - 13:33

    لك كل الشكر يا أستاذي العظيم حياك الله على إلتفتاك هذه شكرا جزيلا
    مع تحياتي :المهدي الهوبي.

  • أستاذ الاجتماعيات
    الأربعاء 25 مارس 2020 - 15:00

    أتفق مع صاحب المقال، من حيث المبدأ، لكن السياق التاريخي و الثقافي و الجغرافي مختلف تمام الإختلاف، فشتان بين مواطن إيطالي – يتحدى الطوارئ الصحية من أجل ممارسة حريته الشخصية، و إن كان يريد ممارستها بشكل أناني و مضِر، هذه الحرية التي هي بمثابة عقيدة في المجتمعات الغربية – و بين سلفي أو مدمن أو إِمَّعَةً مشحون بالعاطفة الدينية، يريد الفوضى و يعتبر الدولة و رجال السلطة و الأمن عدوا، و حالة الإرتباك التي يخلفها تفشي الوباء بالمغرب، هي عنده فرصة للتمرد و لي ذراع الدولة و العيث فسادا في البلاد و العباد.
    أنا ضد أن يتعرض مواطن أوروبي لهذا النوع من العنف و الإهانة، لكنني مع هذا النوع من العنف ضد مدمني و حثالة و أوباش مجتمعنا هذا.
    نعم، من يريد تحدي السلطات و يريد تلقي عدوى الفيروس و نشرها لآخرين يستحق الضرب و الركل بأحذية رجال الأمن و السلطة.
    إنتهى الكلام و معه التفلسف، فليس كل بشري يستحق حقوق الإنسان.

  • مصطفى الرياحي
    الأربعاء 25 مارس 2020 - 16:26

    عنوان المقالة يلمح إلى سورة النمل "حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"
    جاء العنوان في محله إذ أصبح الإنسان عرضة لجيش الكورونا ولا حولة له إلا إلزام مسكنه والصبر هو اللذي طالما تطاول على أمنا الأزض واحتقرها وجعل منها مزبلة بعدما خُلقت جنة أنهار وبحور تجري هكذا مصير كل متجبر متكبر ولو بعد حين

  • نادية
    الأربعاء 25 مارس 2020 - 17:26

    اللغة البسيطة ابلغ والدليل دوار بلعيد لم يسجل اصابات كونوا مثل دوار بلعيد وباراكا من خيطى زيطى وكعدوا فخيامكم

  • zaki
    الأربعاء 25 مارس 2020 - 22:26

    السلام عليكم
    والله أعجبني مقالك . يبعث على الإرتياح وينشر التفاؤل. انتشار الوباء بوتيرة سريعة يجب ان يؤخد على محمل الجد . وجادلوهم بالتي هي أحسن وعلى الشعب التجاوب مع اجراءات السلطات حتى يتسنى مواجهة هذه الجائحة .السلطات قائمة بالواجب . إنهم يتحملون عبأ كبيرا ويقدمون تضحيات جبارة من أجل مصلحتنا .إذن لنتحد وفي الإتحاد قوة

  • #لنلزم_بيوتنا#
    الخميس 26 مارس 2020 - 12:25

    اتفق جملة وتفصيلاً مع ما ورد في هذا المقال القيم ، فنحن لاشك أمام إعادة بناء نظام عالمي جديد ، وهذا الحدث يفرض علينا بإلحاح تبني مقاربة النجاة القائمة على إعادة الاعتبار لحماة الوطن الحقيقيين "افراد الجيش والأمن.. ومهنيي قطاعي التعليم والصحة " هؤلاء الذين ابانوا عن حس وطني منقطع النظير خلال هذه الأزمة وانخرطوا بشكل فعال في مواجهة تداعيات الوباء كل حسب موقعه ودوره في المجتمع…ففي الشدائد يحتاح المواطن للقطاعات الأساسية والخدمات لا المهرجانات والحفلات التي طالما قدمت الرداءة واستنزفت الثروات…

  • #لنلزم_بيوتنا#
    الخميس 26 مارس 2020 - 12:32

    من بين النقط اللافتة للأنتباه في المقال أيضاً إشارته إلى ضرورة إحترام القوانين وتطبيق العقوبات في حالة تسجيل مخالفات مع عدم المس بكرامة المواطنين ومنع كل التجاوزات والانتهاكات…واشارته الى ضرورة انخراط النخبة المثقفة في التدبير الفكري للمرحلة الراهنة والتحسيس ونشر الوعي بين فئات المجتمع لأننا في فترة حجر صحي لا فترة حجر فكري .

  • مغربي قح
    الخميس 26 مارس 2020 - 13:11

    شكرا للكاتب بعض الأصوات البغيضة تحرض الدولة على استخدام العنف ضد المواطنين حماية لحياتهم؟؟؟
    كرامة الإنسان هي حياته ولا يمكن مقايضة الكرامة بالحياة.
    من تخلى عن كرامته تخلى عن حياته.
    لا لتسييس كورونا شكرا لهسبريس على الموضوعية والحياد.

  • rochdi
    الخميس 26 مارس 2020 - 13:46

    السلام عليكم كلام جميل منطقي .يجب على كل المغاربة أن يلتهم ويلتزم بالحجر الصحي للمحافظة على سلامة وطننا الحبيب و يجب أن نعلم أن مثير صحة المواطنين ينبني على سلوك بعض الأفراد أدلك نطلب الجميع بالإلتزام و المحافظة على صحة وطننا الحبيب

  • مهدي باخوش
    الجمعة 27 مارس 2020 - 16:30

    شكرا لمجهوداتك المركزة في نشر الافادة للعامة والتي كانت سبب في جعلي اراجع افكاري و خلق مقاومة مروضة لطبيعتي الغريزية شكرا لتعليمك لي واصلاحك لي.من تلميدك السابق مهدي بخوش

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30

احتجاج أساتذة موقوفين