كارل ماركس والايديولوجيا وهم

كارل ماركس والايديولوجيا وهم
الجمعة 8 فبراير 2013 - 18:31

نستطيع أن نستشف تعريفا لمفهوم ”الايديولوجيا“ من خلال استحضار الترجمة التي يقدمها الأستاذ عبد الله العروي، إن الايدولوجيا ”أدلوجة“ أي ”دلجة“ و هي الظلام، من هنا فالإديولوجيا تؤدي وظيفة التدليس، أقصد أنها تروم تزييف الحقائق و ترويج الأوهام.إن الإيديولوجيا عند ”نيتشه“ هي ”الأخلاق“، فهذه الأخيرة تخفي الحقيقة كما يتصورها ”نيتشه“، حقيقة أن الضعيف يخفي حسده للنبلاء و الأقوياء مروجا ذلك باسطه في قناع أخلاقي. و مع فرويد تتضح معالم الايدولوجيا في نمط آخر، فالمفهوم عنده ليس إلا تلك الأوهام التي يعرضها الانسان لإخفاء حقيقة الدافع الأساسي لكل تحركاته و طموحاته و اهتماماته، التي تنصب فيما هو ”جنسي“ قادم من مستودع الرغبة.

قبل أن نعرض لمفهوم الايديولوجيا في الفكر الماركسي قد يكون من المفيد أن نعرف بالمعنى الأولي السائد لمفهوم الايديولوجيا في عصر الأنوار، لقد كان المفهوم يحيل على الأوهام التي يستغلها المتسلطون من نبلاء و رهبان لمغالطة عموم الناس و البسطاء و حرمانهم من معرفة الحقيقة، الايديولوجيا هي إذا ذلك القناع الذي يرتديه أصحاب المصالح من أجل تزييف الرأي العام. هذا هو التعريف الذي كان سائدا في عصر الأنوار.

أما ماركس ”الناضج“ فقد كان يرى في الايديولوجيا كل فكر لا يستجيب لواقعه، يبدو ذلك واضحا في نقده لفكر اليسار الهيغلي الذي استحضر فلسفة الأنوار لقراءة الو اقع الألماني، لا يفهمن من هذا الكلام أن ماركس كان يعادي الفكر الأنواري، لا، و لكن الحقيقة عند ماركس أن هذا الفكر قد تم تجاوزه و لم يعد يسعف الناقد في قراءة الوقائع المستجدة، بعبارة أخرى براديغم الفكر الانواري قد استنفذ كل أغراضا، يقول كارل ماركس معاتبا اليسار الهيغلي ”حين تحيون في ألمانيا فلسفة الأنوار و نقدها للأوضاع، إنكم تلغون التاريخ الواقعي، و بإلغائكم إياه تملأون أذهانكم بالأوهام و تعرضون عن معرفة الواقع. فكركم إذن أدلوجي، غير علمي“.

لنسلط بعض الأضواء على هذه القولة، يقول ماركس أن الفكر الايديولوجي ليس علميا، بمعنى آخر أنه وهمي، و مادامت الأشياء بضدها تتميز فلابد هنا أن نتعرف على الفكر الغير الايديولوجي، يقول ماركس إن ”العلم الحقيقي و الإيجابي ينطلق من الحياة الواقعية، من استعراض نشاط الإنسان، و عملية تطور الإنسان المادي“، لعل هذه القولة تجعلنا نفهم مقصود ماركس بالايديولوجيا، إنها كل مقالة لا تتوفر فيها مقومات التاريخانية، أي وعي الإنسان بالتاريخ، التاريخ هنا بما هو تغير دائم و حركة، و في المقابل مساهمة هذه الطوارئ الاجتماعية و المادية بالخصوص في بناء النسق الفكري للإنسان. و هذا سيؤدي بنا في نهاية المطاف إلى تصور الايديولوجيا كـ“مطلق“، أي تلك الأفكار ذات النزوع الإطلاقي التي لا تقبل التحوير و لا التغيير.

يبقى أن نطرح سؤالا آخر، ما الذي يجرد فكرا ما من طابع الإطلاق، إنه حسب ماركس عدم الانتباه للطابع الطبقي لأي فكر، يقدم أي مشروع ثوري نفسه كخادم للمصلحة العامة، لكنه في الحقيقة حين يدعي خدمته للصالح العام يقدم اعترافات زائفة، و هكذا فمجموعة الافكار و المعتقدات التي تروج لتوحي للرأي العام بأنها مطلقة لعموم الطبقات فكر إيديولوجي أي مجرد وهم.

و يبدو أن ثمة ارتباط وثيق بين الايديولوجيا في فكر كارل ماركس و قلبه للجدل الهيغلي، كان ديالكتيك(الجدل) هيغل مثالي، أي أنه رأى بأن التاريخ تسيره الأفكار، لكن كارل ماركس رأى بأن التاريخ الهيغلي يمشي على رأسه، إن المحدد الرئيسي و المؤثر فيه بشكل واضح هو المادة، و بالأخص وسائل الإنتاج، و مادامت الإيديولوجيا هي الوهم و القناع، فسيكون أي شكل من أشكال الفكر تقدم على أساس أنها محرك التاريخ ليست سوى إيديولوجيا، و يطلق عليها كارل ماركس كذلك مفهوم “البنية الفوقية”، في مقابل “البنية التحتية”، إن البنية الفوقية هي مجموع الأفكار التي تشمل الدين و الفن و الفلسفة المثالية و التي تقف حائلا عائقا دون معرفة الصراع المادي بين الطبقات.

إن التحليل العلمي و المادي للتاريخ يضعنا أمام حلقة متصلة من المراحل التي مرت بها البشرية، بدءا مما يسمى الشيوعية الأولى، مرورا بالرق، و الإقطاعية، فالرأسمالية، و كان المؤثر دائما هو وسائل الإنتاج، كلما استجدت وسائل جديدة أحدث ذلك تغييرا في الطبقات الاجتماعية و بالتالي في حركية التاريخ. و ما يغطي حقيقة هذا التاريخ هو مجرد وهم، و كل فكر مناضل لا يتسلح بفكر زمانه هو إيديولوجيا مخادعة.

ابتدأ المفهوم عاما فضفاضا يشمل كل ما يعكر صفو الرؤية، كل ما يحجب الحقيقة، هذا هو المعنى الذي كان سائدا في الفكر الأنواري، لكنه سيتحول مع كارل ماركس، أو بتعبير أدق سيدقق ماركس في المفهوم أكثر، سيصير المفهوم في فكر ماركس ما له طابع إطلاقي، بمعنى آخر لا يقيم وزنا للتغيرات التاريخية، و هذا يقودنا كذلك للحديث عن البنى الفوقية باعتبارها النهر المتدفق الذي تنهل منه الإيديولوجيا، إن الايديولوجيا ضد العلم و ضد التاريخ. الإنسان الذي يحذر غواية الإيديولوجيا يجب أن يكون تاريخيا، أو بالأحرى تاريخانيا، أي أنه يعي حركة التاريخ، ليس هذا فحسب، بل و يرى نفسه مجرد ريشة تتقاذفها رياح التاريخ، و لا مفر من الاستجابة و الميل معاه، و إلا كان الجري عكس التيار سببا في الركود و النكوص.

‫تعليقات الزوار

10
  • ARIFI
    الجمعة 8 فبراير 2013 - 19:27

    Bravo Adil, maintenant que c'est plus court c'est plus intéressant et c'est plus attrayant.

  • jastimi
    الجمعة 8 فبراير 2013 - 19:36

    تبقى النقطة السوداء في البناء الفكري العبقري لماركس اغفاله شر الاطلاقية نفسها في اعتباره بنفس مسيحي صوفي لا واعي الادلجة و الظلام نفسه شرا مطلقا..و الا فما كانت لايديولجيته القيمية الفكرية لتوجه تاريخ العوام نحو واحدة من اكبر التغيرات التي عرفتها البشرية مؤخرا..و لو كانت وسائل الانتاج و المعطىيات المادية وحدها كافية دون الغيبية لما كان العالم بحاجة لانتظار "رأس المال" ليفجرها…
    اتجاه قيم جدا في امثال هذه المقالات لتبصر حالة الآخر المتفوق و تحليله بشكل واقعي – كما يفعل الآخر نفسه بحالتنا منذ قرون خلت الى الآن – دون المغالاة في التهجم عليه بافكار مسبقة سواء مؤيدة بالاطلاق او رافضة بالاطلاق

  • adel 05
    الجمعة 8 فبراير 2013 - 23:19

    هذا التعريف الماركسي للإيديولوجا ينطبق بشكل دقيق على العدالة والتنمية و على السلفية الوهابية؛ فالأول يختبئ تحت الإيديولوجيا الدينية لخدمة أجندة المخزن، أما السلفية الوهابية، فخلف نفس الإيديولوجيا تخدم أجندة مخابرات الدولة الوهابية التي تخدم بدورها أجندة الإمبريالية الأمريكية.

  • قارىء
    السبت 9 فبراير 2013 - 00:10

    الأيديولوجيا ثقافة محايثة لممارسات اجتماعية ،انها معطى واقعي والا كيف نفهم او نفسرالاختلافات والتناقضات الفكرية او الأخطاء وليس فقط الاختيارات السياسية او حتى التوجهات العلمية ،لن تستطيع إتمام بحث تاريخي نقدي ان كان المشرف سلفيا وليس تقدميا.لمادا? وما العائق ?انها الأيديولوجيا يا استاد،ان عدم القدرة عن فصل الأيديولوجيا من متنها الماركسي هو الدي يحد من خصوبتها في فهم والتعامل مع الواقع، ان ربط الفكر بالواقع آليا ،رغم مساحيق التجميل الجدلية ،هو الدي يفقر إجرائية دلك المفهوم ، فالأيديولوجيا او الفكر المغاير قد يكون إجابيا او سلبيا،ولكن هده القيمة لم تعد تحتسب انطلاقا من الثقافة العمالية ،هده الأخيرة أيديولوجيا ،وليست مرجع أصلي ومطلق لتثمين او تبخيس ،فكر الآخر غير العامل ،لقد استمد الفكر العمالي ،سلطته كمرجعية لتقويم الثقافات المغايرة إيجابيا او سلبيا ،من خلال قراءة اقتصادية وتاريخية للتجارب الإنسانية ولكن بأدوات ومفاهيم العقلانية الكلاسيكيةمن حقائق مطلقة وسببية أحادية وآلية ;الملكية الخاصة سبب الاسباب ،يمكن ان نقول ان ماركس ليس سوى نيوتن يؤسس علم ميكانيك الاقتصاد .

  • amal
    السبت 9 فبراير 2013 - 01:44

    مقالة فلسفية في غاية التبصر و الحكمة ، ليت كل العقول الإنسانية تحذو بنفس التبصرو برؤيا ثاقبة نحو هذا الواقع و حول الوجود عموما.
    يبقى السؤال ، هل الدين ايديولوجيا ؟
    نامل أن يمطرنا هذا الموقع الإلكتروني باشكال شبيهة من هذه المقالة حتى لا نظل عميانا من واقعنا الكئيب و مغفلين لا نجيد التفكر ولا التبصرو لا التنقيب عن الحقائق .

  • ما موضوع حلقتنا
    السبت 9 فبراير 2013 - 07:56

    كلما تعلقت بشخص اذاقك الله مر التعلق لتعلم ان الله يغار على قلب تعلق بغيره

    هكذا قرأتها فنقلتها

    وموضوع حلقتنا هذا الصباح عن رشيد الدين بن ابي الفضل بن علي الصوري 1177/1241
    من كتاب عيون الأنباء في طبقات الاطباء لابن ابي صبيعة نورد أبيات تدل على طول باع ابي الفضل رشيد الدين الصوري منها
    لعلم رشيد الدين في كل مشهد منار علا يأتمه كل مهتدي
    حكيم لديه المكرمات باسرها توارثها سيد بعد سيد
    حوى الفضل عن آبائه وجدوده فذاك قديم فيه غير مجدد
    تفرد في ذاالعصرعن كل مشتبه بخيرصفات حرصها لم يحدد
    أتتني وصاياه الحسان التي حوت بنثر كلام كل فصل منضد
    واهدي الى قلبي السرور و لم يزل بها أبدا فيما أحاول اقتدي
    ولا غرو من علم الرشيدو فضله إذ كان بعد الله في العلم مرشدي

    كان عالما عاقلا حاز ثقة ولاة الامر
    يقول ابن ابي صبيعة
    كان خدم بصناعة الطب عند الملك العادل أبا بكر ابن ايوب وصحبه لمصر و القدس وتوفي ثم خدم بعده لولده الملك المعظم عيسى ابن ابي بكر وخدمه الى ان رحمه الله ثم أيضاً خدم ولده الملك الناصر داوود ابن الملك المعظم ففوض اليه رياسة الطب
    اشتهر بالنبات خدمة لعلوم الطب واسهم بعلاج مرضى الحروب الصليبية بالقدس

  • hmed
    السبت 9 فبراير 2013 - 14:20

    يوم لم تعد للفلسفة قيمة في مجتمعنا العربي ونحن في انحدار مهول نتخذ الجهل شعارا فحال العرب كئيب، لم يعد شك في كون العرب من اغبى الأمم على الإطلاق، لا لشيء سوى لتغلب و سيطرة الفكر الديني على الفكر الفلسفي.

  • من أجل ماركس
    السبت 9 فبراير 2013 - 14:59

    يبدو لي أنك لم تقرأ العروي بشكل جيد، أرجو أن تعيد قراءته من جديد، و الأولى لك أن تبدأ بكتاب محمد سبيلا عن الإيديولوجيا ، ثم تعود بعد ذلك لكتاب العروي حتى تستفيد منه أكثر.
    ثم لا تنسى أن الإيديولوجيا نشأت في فرنسا، كمصطلح و مفهوم،مع الفيلسوف "دستوت دو تراسي"، و مع الإيديولوجيين..فراجع الدراسات و الأطروحات الجامعية التي أنجزها الباحثون الفرنسيون في الموضوع، منذ القرن التاسع عشر..و لهذا الغرض، راجع موقع المكتبة الوطنية الفرنسية.
    ثم لا تنسى أن نابليون بونابرت، لعب دور ا كبيرا و خطيرا..في تحوير و تطوير مصطلح الإيديولوجيا:فادرس هذا أيضا.
    إذا قمت بكل هذا، على النحو الأفضل، يمكنك أن تشرع في دراسة الإيديولوجيا عند ماركس، و لتكن خطوتك الأولى مع كتاب "الإيديولوجية الألمانية" من تأليف كارل ماركس و فريدرك إنجلز( و هناك ترجمات عربية جيدة لهذا الكتاب).
    و قد تستعين بـ "محاضرات في الإيديولوجيا و اليوتوبيا" لبول ريكور( و هناك ترجمة عربية لهذا الكتاب أيضا)،لفهم الإيديولوجية الألمانية.
    و لكنك لن تفهم الإيديولوجيا عند ماركس ، على النحو الجيد إلا إذا درست غرامشي و ألتوسير ..و كارل مانهايم.و بالله التوفيق.

  • youssef
    السبت 9 فبراير 2013 - 16:25

    لم أكن أدري ان عبدالله العروي مصاب بمتلازمة القذافي الذي كان يتفيقه علينا بمسمياته الغبية وكانه توصل للجاذبية أونسبية. أوباما /أبو عمامة وديمكريسي /ديم الكراسي بالله عليلم كفاكم استخفافا بعقول القراء كلمة ideology مشتقة من اللإسم idea فكرة و logy علم دراسة أي علم دراسة الأفكاروالمثل
    فأين الإدلاج من هذا تفسرونها بالعربية وكأنها كلمة غير أعجمية.

  • زكية الذكية
    الأحد 10 فبراير 2013 - 14:29

    المقالات التي يتناول أصحابها قضايا فلسفية قلما يسلم أصحابها من النقد وهو تقليد قديم تمتد جذوره إلى ماضينا الغابر وبعض ممارساتنا الفكرية الغبراء، ويكفي أن نستحضر فتوى ابن الصلاح في تحريم الاشتغال بالفلسفة حيث قال" الفلسفة أس السفه والانحلال ومادة الحيرة والضلال" ولذلك لن يسلم مقالك من النقد يا عادل، فكثيرا من الناس يلتبس عليهم اﻷمر فيخلطون الحابل بالنابل معتقدين أن الكتابة عن فكر ماركس هو بالضرورة تمجيد للماركسية. طالبك البعض بالمزيد من القراءة في موضوع الايديولوجيا كما لو أنك تحضر لأطروحة دكتوراه في حين أن مقالك لا يتسع لعرض كل ما كتب في هذا المجال. وتحدث بعضهم عن بن أبي صبيعة والحال أنه ابن أبي أصيبعة. وشبه أحدهم عبد الله العروي بالقذافي وهذا ظلم كبير، فالعروي لم يقل أن أصل الايديولوجيا " أدلوجة" وإنما اعتبر أن المفهوم لا يؤدي المطلوب منه عند ترجمته إلى العربية ثم لاحظ ان الفكر العربي استعمل مفاهيم تؤدي نفس المعنى،معتبرا أن ما يؤدي المعنى المراد من الكلمة هو حملها على معنى "الادلوجة" وشتان ما بين هذا والقول بأنه يجعل من اﻷدلوجة أصلا للكلمة ﻷن العروي أكبر من أن يسقط في مثل هذا التخريف

صوت وصورة
أسرار رمضان | نعمة الأم
الثلاثاء 26 مارس 2024 - 17:00

أسرار رمضان | نعمة الأم

صوت وصورة
أطباق شعبية | اللوبيا
الثلاثاء 26 مارس 2024 - 16:00

أطباق شعبية | اللوبيا

صوت وصورة
الحيداوي يغادر سجن الجديدة
الثلاثاء 26 مارس 2024 - 11:32 4

الحيداوي يغادر سجن الجديدة

صوت وصورة
ملفات هسبريس | ثورة البيتكوين الثانية
الثلاثاء 26 مارس 2024 - 11:00 1

ملفات هسبريس | ثورة البيتكوين الثانية

صوت وصورة
إفطار رمضاني داخل كنيسة
الثلاثاء 26 مارس 2024 - 09:31 3

إفطار رمضاني داخل كنيسة

صوت وصورة
حقيقة خلاف زياش ودياز
الإثنين 25 مارس 2024 - 23:58 5

حقيقة خلاف زياش ودياز